بينما تموج الأرض العربية، مشرقاً ومغرباً، بحركات الاعتراض والتمرد على أنظمة القهر والتخلف التي أقفلت طريق الشعوب إلى التقدم وبناء دولها في بلادها بالديموقراطية والكفاءة، يحدث في لبنان العكس تماماً: يسد النظام الطوائفي الطريق إلى التغيير بألغام المحاصصة واستنفار المذهبيات فإذا «الدولة» تتلاشى بمؤسساتها الجامعة والموحدة،
لم يعد مسلَّما برئاسة الجمهورية كمرجعية منزهة عن التحيز والتحزب، فثمة من يستخصمها من داخل الطائفة، بينما تنشغل الطوائف والمذاهب الاخرى بخصومات أشد وأقسى.
ومن باب أولى ان يطعن برئاسة الحكومة التي استولدت قيصرياً في لحظة سياسية محددة شابتها غلبة طائفية ـ مذهبية، في نظر من خسر الموقع الممتاز، مما جعل هذا الموقع الممتاز موضع طعن يدفع متوليه إلى المزايدة المفتوحة حتى «لا يضرب من بيت أبيه»، فإذا هو مشلول القرار.
وبديهي ان يسبغ على تصرفات رئاسة المجلس النيابي الصبغة المذهبية فيتم تعطيل المجلس كمؤسسة تشريع، بما يشل «الدولة»، بالانقسام الطوائفي مغلفاً… بالديموقراطية!
اخطر ما جرى في الفترة الأخيرة هو محاولة تعطيل الجيش، المؤسسة الجامعة، والتي كان الكل حريصاً على إبقائها خارج الصراعات السياسية ـ الطائفية المذهبية، ومرجعية عليا لضمان الاستقرار باعتبارها احد عناوين الإجماع الوطني… وهو نادر جداً في بلد الأرز!
يأتي ذلك بعد محاولات استهدفت مؤسسة قوى الأمن الداخلي لتعطيلها بدمغ قرارها بالهوس الطائفي والمذهبي، بينما موقعها ودورها أساسي في تأمين السلامة العامة لجميع المواطنين.
ثم جرى الأمر نفسه مع مؤسسة الأمن العام، وأيضاً بقصد تعطيل دورها الذي يلامس العلاقات مع «الدول»، ويشوه سمعتها، بينما تشتد الحاجة إليها في هذه اللحظة السياسية المفصلية.
ولأن المقاعد الوزارية إقطاعات طائفية ومذهبية فإن تصادم المصالح بين القوى المكونة للحكومة عطلت مؤسسات الدولة المدنية، فشغرت مواقع عليا في القضاء وتعذر ملء الشغور لأن الصراع امتد إلى دوائر النفوذ في كل طائفة، وسقطت سهواً الكفاءات والخبرات ورصيد السمعة،.. وهذا يفسر في ما يتجاوز القضاء، الحجم المؤثر للشغور في مواقع القرار الإداري والتنفيذي والشلل العام الذي ضرب مختلف مؤسسات الدولة.
على ان سقوط الدولة في لبنان، الذي يفتح أبواب جهنم الحرب الأهلية، لا يضعف النظام الطوائفي بل هو يعززه ويحصنه، خصوصاً وقد اضاف إلى ترسانته السلاح الفتاك: المذهبية.
أي ان النظام في لبنان يسير عكس اتجاهات الريح في المنطقة، فهو يفتك بالدولة باعتبارها التجسيد السياسي ـ ولو الرمزي ـ للوحدة الوطنية ويفكك مؤسساتها ويهمشها بما يجعلها عاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من الحقوق البديهية «لرعاياها» في المواطنة والعدالة والتقدم.
والنظام الطوائفي يستعصي على الإصلاح، بشهادة التجارب الغنية التي خاضها هذا الشعب بقواه الحية في نصف القرن الأخير… فكل مطالبة بالتغيير أو حتى الإصلاح والاعتراف بالمواطن وحقوقه على دولته في وطنه، واجهها النظام بسلاحه الفتاك: الطائفية فانتهت إلى حرب أهلية… وتواضعت احلام «الرعايا» مع التسويات التي ابتدعت لتلك الفتن إلى مجرد استعادة الهدوء ووقف حمامات الدم، وترميم الدولة تحت جناح النظام اياه الذي عزز ترسانته التدميرية بالمذهبية، فإذا الشعب «شعوب»، وإذا هوامش تدخل «الدول» قد اتسعت، وإذا مساحة الوطن الصغير قد اتسعت لكانتونات عدة، لكل كانتون «حدوده» و«مطالبه» التي لا بد من تعديل القوانين لتحقيقها…
وها نحن نشهد ـ نتيجة لتفجر الأوضاع في سوريا «الفضل» للسلوك الدموي للنظام فيها ـ ارتفاع أسوار «الاستقلال» في أكثر من «كانتون» وتصاعد نبرة العداء للجيش لتعطيل دوره الموحد بطبيعته، وارتفاع الصوت بالتشكيك بالقضاء، ويصعب قبول فرضية المصادفات في التزامن بين هذا كله وبين تعطيل دور المجلس النيابي بعدما فرض الشلل على حكومة النأي بالنفس، وقد انتهى بها سلوكها إلى النأي عن البلد وموجبات سلامة الدولة فيه فضلاً عن تأمين الدورة الطبيعية للحياة اليومية.
في ظل مثل هذه الأحوال ليس أسهل من تدبير محاولة لاغتيال هذا السياسي أو ذاك، بما يكشف عجز الحكم ويضرب مصداقية الدولة او ما تبقى منها ويبرر احتماء كل طرف بطائفته او بمذهبه، فاتحاً الباب امام «الدول» لأن تأتي لتأمين الحماية الكافية للنظام على حساب الدولة المتهالكة ووحدة الشعب المتصدعة بالانقسامات سريعة التحول إلى مواجهات مسلحة بين الطوائف والمذاهب.
وهكذا تتبدى امام الجميع المفارقة القاسية: بينما الشعوب العربية تنزل إلى ميـــادين الثورة، بمئات الآلاف، لتتـــخلص من أنظمة الدكتاتورية والقهر واستعادة حقوقها في الكرامة وفي بناء دولها الحــرة وغير المرتهنة للخارج، بوحـــدتها الوطنية معززة بالديموقراطية، فإن النـــظام في لبنان يعيد شعبه إلى موقع رعايا الطوائف والمذاهب المصـــطرعة ـ عبثياً ـ على حطام دولة هي أعجـــز من ان تحمــي وحدتها فكيـــف بحماية الوطن وأهله الذين تتعاظم المسافة ـ ضوئياً ـ بين واقعهم الطوائفي وحلمهم بأن يكونوا مواطنين.
… والثورة، في ظل هذا النظام الطوائفي، فتنة… ما أكثر الملعونين الذين يحاولون إشعالها!