طلال سلمان

نصر مهرب

بينما لبنان يكاد يتوه في عتمة الصراعات السياسية التي طاولت مرتكزات كيانه، جاء النصر المؤزر الذي حققه الجيش بمساندة أهله في كل لبنان على جماعة فتح الإسلام في مخيم نهر البارد كنقطة ضوء مؤهلة لأن تستبقي شيئاً من الأمل في العثور على باب نجاة يحتاجه مختلف الأطراف، إذا ما قرّروا أن يهجروا المكابرة والإصرار على التفرّد في بلد يستحيل على أي طرف فيه أن يحتكر تمثيله والنطق باسمه.
لقد تحقق هذا النصر بكلفة باهظة قدمها الجيش وأهله جميعاً الذين احتضنوه وقدموا له أبناءهم بغير منة، واستقبلوا شهداءه في أنحاء لبنان كافة، شمالاً وشرقاً، جنوباً وجبلاً وفي القلب بيروت، بالزغاريد ونثر الأرز، مقدّرين فيهم البسالة التي حققت هذا الإنجاز المهم الذي سيترك أثره على مواجهة الإرهاب المصفح بالشعار الديني، في أربع رياح الأرض.
إنه نصر مهرّب ! تمّ اختلاسه في غفلة من السلطة ومعها مجمل القوى السياسية التي تعامل الجيش كأنه مجرد قوة إسناد للشرطة، بل لعلها لم ترد له تاريخياً إلا دور الشرطي، وفي الداخل بل وداخل الداخل… وهذا ما انكشف كالفضيحة ليس فقط في مواجهة الاعتداءات والحروب الإسرائيلية المتكررة على لبنان، وآخرها قبل عام فقط وأثار تدميرها ناطقة بعد، بل كذلك في الحرب التي فرضها عليه الإرهاب المسلح في المخيم الفلسطيني المتروك للريح…
ولقد رفع هذا الإنجاز المثقل بالشهادة الجيش فوق الخلافات والمختلفين حتى على البديهيات، وأسبغ عليه صفة المرجعية الوطنية ، معوضاً عليه بالمعنويات النقص الفاضح الذي عانى منه خلال حرب المئة وخمسة أيام ، في السلاح والذخيرة والعتاد الضروري لمواجهة شرسة في قلب قلعة معززة بالتحصينات والسراديب والملاجئ المتعددة الطبقات وكميات لا تنتهي من الصواريخ والمدافع والعبوات الناسفة وخبرة متميزة في تفخيخ كل مكان وكل شيء!
إن وهج الدم الذي بذل من أجل النصر يمكن أن يحميه من محاولات الاستثمار والاستغلال السياسي… فلقد تبدى الجيش في حربه وكأنه منفصل عن السلطة السياسية إلى حد كبير: هو موضع إجماع، في حين أنها موضع اختلاف وعنوان للانشقاق السياسي… هذا بمعزل عن الاتهامات التي أطلقت حول ضلوع بعض الأطراف في رعاية هذا التنظيم الإرهابي، بداية، وبقصد استخدامه في الصراعات الداخلية، وتحديداً في الجهد المبذول من أجل تحويل الخلاف السياسي إلى فتنة مذهبية إذا ما تعذرت الحرب الأهلية ذات الطابع الطائفي.
ولقد سهل على الجيش تحقيق إنجازه هذا أن المخيم لم يسلس قياده لهذا التنظيم الإرهابي، وإن كان أهاليه لم يستطيعوا منع أفراده من الدخول ومن الاستقرار فيه، ولا سيما أنهم قد اختاروا الشعار الديني مدخلاً معززاً باسم فلسطين ممثلة بتراث فتح التاريخي.
فهذا المخيم، بأهله الذين يتجاوزون الثلاثين ألف نسمة، كان، كبقية المخيمات الفلسطينية، متروكاً للريح: لليائسين، المكسورين، المهانين بداية لأن أرضهم أخذت بالقهر منهم فأخرجوا منها غصباً… ومن ثم لأنهم ضاعوا في غمار الثورة والثروة في فترة الصعود، فاستقووا وكادوا ينسون مهمتهم المقدسة، ثم جاء زمن الخيبة فامتد جيلاً بعد جيل وما زال مرشحاً للامتداد، وقد اندثر الأمل في العودة أو كاد…
وهكذا فإن الدخول السهل لتنظيم فتح الإسلام إلى مخيم البارد يكشف بؤس الوضع الفلسطيني في لبنان، وافتقاده إلى المرجعية الواحدة، بل إلى أي مرجعية، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً… ولقد تهاوى ممثلو منظمة التحرير وسائر الفصائل أمام عناد العبسي ومن معه، فاكتفوا بالتحريض عليه والصمت عن تهجير الثلاثين ألفاً من قلب المخيم إلى حيث يمكن قبولهم… ولم يكن ذلك بالأمر السهل.
مع ذلك فقد فشل هذا التنظيم في استقطاب أبناء المخيم، أولاً لأنه غريب عنهم، وعن لبنان عموماً… فكيف سيتفهّم الشيشاني واليمني والسعودي والمغربي والجزائري والسوري والفلسطيني الوافد حديثاً، طقوس العمل السياسي اللبناني وتقاليده وفولكلوره الطريف. صحيح أن المناخ الطائفي وأن الصراعات السياسية ترتدي في بعض الحالات لبوس الطائفية (وحتى المذهبية) بالمزايدة أو بالمناقصة، لتحقيق أغراض أو مصالح آنية، لكنها بعمومها لا تتبنى المنطق الديني تكفيراً وتشهيراً بالمنتمين إلى أديان أخرى… فثمة سبع عشرة طائفة تتعايش ، بالرغبة أكثر مما بالاضطرار، فوق هذه الأرض اللبنانية الجميلة.
كذلك فإن مأساة المخيم، وهي لبنانية بقدر ما هي فلسطينية، قد كشفت بؤس الوضع العربي، مرة أخرى…
فالناقمون على أنظمتهم تجمعوا في ذلك المخيم، وقد يتجمعون في أي مكان يتلمسون فيه نقاط ضعف، أو يسهل عليهم منها خوض معركتهم الانتحارية: اضرب حيثما استطعت فكل الأنظمة إلى النار!. وهذا ليس شعاراً إسلامياً خالصاً، بل هو شعار موروث عن حركات كانت ثورية فانحرفت وهادنت أو استسلمت فخانت منطلقاتها وأهدافها وتحولت بسلاحها إلى علة وجودها، أي الطموح إلى التغيير… وهكذا انتهت تقاتل من يريد التغيير أو يحاوله.
[ [ [
سيبقى النصر لأهله…
لن يستطيع أحد الادعاء بأنه هو الذي مكّن الجيش من إنجازه… فقد انتهت حرب البارد قبل أن تصل المساعدة الأميركية (الهائلة)، وقبل أن تصل الإمدادات الخطيرة التي وعدت بها دول النفط، (ومعظم ما وصل منها لم يوجه إلى الجيش أصلاً، على ما تقول العامة)…
ويمكن أن تفيد الصورة التذكارية التي التقطت للضباط الأميركيين الكبار الذين صحبهم سفيرهم الخطير إلى وزارة الدفاع وقد وقفوا مع قيادة الجيش ومن خلفهم السيارات النفاثة، في التأريخ لانتهاء هذه الحرب قبل إنزالها إلى… الميدان. ويمكن أن يكتب تحتها: أسلحة الدمار الشامل التي قدمتها الإدارة الأميركية إلى لبنان كي يحارب الإرهاب.
على أن دماء الفتية اللبنانيين الذين كانوا يتسابقون إلى الشهادة قد أغنت لبنان عن هذا الارتهان الجديد…
في انتظار أن يحسم الصراع على الجبهة السياسية بكل حروبه المفتوحة والمستعصية على الحلول الداخلية والإقليمية والدولية… أقله حتى هذه الساعة!

Exit mobile version