منذ لحظة الوصول إلى المطار في »أبو ظبي« بدأ هطول الأسئلة »الخليجية« حول ما جرى ويجري في بيروت، وبلهجة تنضح بمزيج من القلق واللهفة والرغبة في الاطمئنان: ما هذه التغييرات المفاجئة التي تعادل الانقلاب الأبيض؟! كانت السماء صافية عندكم فمن أين جاءت هذه الصواعق ذات الطابع »العسكري«؟! إننا نعرف أن العماد إميل لحود موضع ثقة وهو يتمتع بسمعة طيبة ويحظى بتأييد شعبي واسع، ولكن.. لماذا »خُلعَ« رفيق الحريري أو حوصر بحيث لم يعد أمامه غير أن »يخلع نفسه« ليخرج كبيراً نسبياً وقبل أن تقزِّمه المناوشات اليومية فينتهي صغيراً؟! إننا نعرف في الرئيس سليم الحص الحكمة ونقدِّر عنده حس المسؤولية، ووجوده في الحكم يطمئننا، نحن أهل الخليج، خصوصاً وأننا لا ننسى له أنه كان الأول في رفع الصوت بالاعتراض على غزو الكويت… لكن الأسلوب كان مفاجئاً جداً، ثم انه مغاير لطبيعة الحص؟!
في الفندق الخاضع كما الطرقات والحركة عموما لطوق أمني مُحكَم استعداداً للقمة التاسعة عشرة لمجلس التعاون الخليجي التي تفتتح أعمالها اليوم (الاثنين)، وعبر الاتصالات الهاتفية واللقاءات الصحافية، اتخذت الأسئلة طابعاً »هجومياً« إلى حد ما: هل هي مقدمات لحكم عسكري في لبنان؟ هل تلك التحرشات الصغيرة خلال الأسبوع الماضي نوع من التهديد أو التلويح بإجراءات تأديبية، إن لم يكن انتقامية، تستهدف »جماعة الحريري«، أم هي »حرب وقائية« تقطع الطريق على هجوم مضاد يمكن أن يفكر فيه أو يُعدّ له رفيق الحريري ومَن يتحالف معه من »المتضررين« من العهد الجديد؟! وهل هي في مطلق الأحوال تكتكات وتحرشات محلية مضبوطة السقف، أم مجرد إعلان نوايا ومقدمة لما سوف يكون؟!
الأسئلة الأكثر إيلاماً كانت عن مستقبل الحريات عموماً وحرية الصحافة خصوصاً في لبنان: نسمع هنا حكايات مزعجة، كمثل »تسريب« متعمد لأخبار مجتزأة، أو إطلاق شائعات مدروسة تتخذ صيغة »الأخبار« للتشهير بمجموعة معينة ومحددة من رجال العهد الماضي… فهل هذه بعض خطة، أم تمهيد، أم حركة التفاف دفاعية لشلّ حركة الحريريين؟!
وكما »القذيفة« يجيء سؤال عدواني مدروس: لماذا تركزت الحملة على وزير بالذات؟! أين الوزراء المتهمون، والمعروفون جيدا، بأنهم قد اختلسوا أو أهدروا أو عقدوا الصفقات لأنفسهم أو كانوا الغطاء لصفقات الكبار؟! كنا نسمع في بيروت وفي مختلف عواصم الخليج، من مستثمرين عرب ومن رجال أعمال لبنانيين حكايات وحكايات عن العديد من الكبراء، رؤساء ووزراء ووسطاء من النافذين بينهم مَن يمكن مقاضاته وملاحقته قانونياً. وسمعنا أو قرأنا تصريحات للرئيس الحريري نفسه يتهم فيها نصف وزراء حكومته (أي 15 وزيراً) بأنهم لصوص. بينهم مَن كان »يهتم« بالنفط أو بالأشغال أو بالسياحة أو بالموارد المائية والكهربائية أو بالشؤون العقارية ولوحات السيارات والهويات والبطاقة الانتخابية، ناهيك بالمجالس جميعا، مجلس الجنوب والمجلس الوطني للمهجرين ومجلس الإنماء والإعمار ومجلس تنفيذ المشاريع الكبرى، كما كنا نسمع عجباً عما يجري في مجلس النواب ومن حوله. ولقد ضعنا، وأخذنا الشك، فصرنا نفترض أن كل مسؤول في لبنان »حرامي إلى أن يثبت العكس«… إذا كان الوضع كذلك فالعلاج لا يكون بتدابير انتقامية مرتجلة وشخصية ومكايدة، بل بمحاسبة قانونية تستهدف الإصلاح وتنظيف البيت بخلع العناصر الفاسدة، وفق القانون، وإدانتها بالقانون، واسترداد المال العام المضيَّع أو المسروق من خزينة الدولة. إن للمحاسبة أصولاً يعرفها، وقد تعهد باعتمادها الرئيس إميل لحود، كما أن الرئيس الحص »حنبلي« في أخذه بالقانون، فلماذا التعجل والاستهداف الشخصي الذي أساء إلى صورة العهد الجديد أكثر مما هدَّد أو أضرّ بالمعنيين؟!
أما صحافيو لبنان في »المهاجر« فكان أول أسئلتهم وآخرها حول الحريات: هل ثمة ما يوحي بالتضييق على الصحافة وسائر الوسائل الاعلامية، نسمع كثيراً عن »توجيه الأخبار«، لا سيما في بعض محطات التلفزيون، فهل هذا صحيح؟! لقد سمعنا تأكيدات الرئيس لحود عن إيمانه بحرية الصحافة وحرصه عليها، فهل الممارسة تنسجم مع هذه التعهدات؟! لم يتبق من لبنان إلا شيء من حرية الصحافة وشيء من الاقتصاد الحر الذي يفتح المجال للاستثمار العربي خاصة، والدولي عموماً، ويبقينا على صلة بما يجري في العالم من تطورات خطيرة تغيّر المفاهيم والبنى الاقتصادية والمعايير السياسية… تُشارك فتكون لك قيمة، تنغلق فتُشطَب.
ومع أن معظم المشاركين في هذا النقاش المتعدد الأصوات قد اعترفوا بأن في الحكومة الجديدة وجوهاً توحي بالثقة وأسماء لها رصيدها في عالم المعرفة بالشأن الاقتصادي ولها خبرتها الطويلة وصلاتها الوثيقة بالمؤسسات والأسواق المالية الدولية، إلا أن الأسئلة تركزت حول برنامج عمل الحكومة الجديدة، وكيف يمكن المحافظة على رصيد لبنان دولياً مع الاندفاع في عملية الإصلاح الاقتصادي والضريبي داخلياً؟! وكيف يمكن بسياسة تقشف ضمان الاستمرار في عملية إعادة بناء البنى التحتية، وتركيز هيكلية الجهاز الإداري، واستكمال النواقص في المؤسسات وفي التشريعات، إلا إذا وُجد من الضروري تعديلها في ضوء التجربة.
كان في النقاش، إجمالاً، حرص على لبنان وصورته عربياً،
وكان فيه أيضاً حرص على صورة العهد الجديد، وخوف من أن تسيء إليها الروح الانتقامية، وان يلجأ بعض من انتقلوا من معسكر الى آخر في اللحظة المناسبة الى تحديد مهمة العهد الجديد بالتشهير بالعهد الماضي،
وكان في النقاش مرارة غير محدودة ازاء انعدام الحياة السياسية في لبنان، والدور الباهت بل المؤذي لمجلس النواب الذي بدّل أعضاؤه رأيهم بين ليلة وضحاها من دون أن يتكرّم أحدهم أو بعضهم بإعطاء تفسير ما.
ولم يكن ثمة مجال للدفاع عن أحد من أولئك الذين يتبدلون مع تبدل اتجاهات الريح،
لكن المطمئن ان الجميع، بمن في ذلك القلقون، يجهرون بثقتهم بالعهد الجديد بوجهيه: إميل لحود وسليم الحص.. وينتظرون أن يبدأ العمل ليكون الحكم، مع التوكيد الملح »الديموقراطية رأسمال لبنان فلا تضيّعوها«.