… وفي الذكرى الخامسة والعشرين لانفجار الحرب الأهلية في لبنان، 13 نيسان 1975، كان لبنان يعيش عبر انتخابات نقابتي المهندسين في بيروت وفي الشمال، يوما ديموقراطيا مشهودا، بمعزل عن هوية الفائزين والخاسرين في هذه المعركة التي امتدت شهورا ولامست بحرارتها مختلف القوى السياسية في »المجتمع المدني«.
بالتوقيت هي شهادة لهذا المجتمع المدني في لبنان.
وبالدلالة الأصلية فهي تؤكد ما ليس بحاجة إلى تأكيد من أنه ليس كالديموقراطية علاج لأمراض المجتمعات التي قد ينقلب التنوع فيها، تحت ضغط المزايدات السياسية والمداخلات الأجنبية والصراع على السلطة بسلاح الفئوية المموّه لحقيقة المصالح، الى انقسام سرعان ما يتغذى بالحساسيات والأغراض فيتفجر حربا أهلية لا تبقي ولا تذر.
فأهم ما تحققه الديموقراطية هو التوازن، بداية باعتراف كل طرف بالأطراف الأخرى، مرورا باعتماد الحوار الذي لا بد سينتهي بصيغة يتوافق عليها الجميع لأنها تحمي وتحفظ وتعزز الوحدة على قاعدة صلبة تتجاوز العاطفة والشعارات الى المصلحة المشتركة.
هي رحلة طويلة بين »نار« الحرب الأهلية و»نعيم« الديموقراطية.
والصندوقة السحرية المثقوبة الرأس، الصلبة القعر، الشفافة الجوانب، تغني متى اعتمدت عن صناديق الذخيرة العمياء التي قد تقتل من توجه إليه، ولكنها تقتل في النهاية مطلقها، وينتهي الجميع مقتولين في بلد خَرِب سرعان ما يصبح مصدر لعنة يجتنبها العالم تحمل اسم: »اللبننة«.
هي رحلة طويلة بين محاولة الفرض بالقهر، وبين انتصار المجتمع عبر نُخَبه بالتناوب على المواقع القيادية، من دون أن يحاول طرف إلغاء الآخرين إما بشطبهم كلياً وإما باحتكار تمثيلهم بادعاءات لا أساس لها من »الأحقية التاريخية« أو »الجدارة العلمية«، في مجتمع صغير لم يشتهر أفراده بالتواضع، ويعرف كل منهم الآخرين بشجرات أنسابهم، الصحيحة والمزوّرة، ويتواطأ الجميع على حقيقة تقلبهم بين الأديان والطوائف وفقا للانقلابات في مواقع السلطة، بالخوف حينا، وبالرغبة في مواقع النفوذ أحيانا، وبالاقتناع في النادر من الحالات.
آلاف من المهندسين احتشدوا، أمس، في كل من بيروت وطرابلس، في تظاهرة ديموقراطية نادرة المثال، وأقبلوا على الصندوقة السحرية المشتهاة والتي نادرا ما خرجت منها »الأوراق الصغيرة« مثل ما دخلت، بغير تزوير بالتبديل، أو بالإلغاء بذرائع أمنية..
كان الكل هناك: »اليمين« بقواه المتعددة، متخاصمة او متهادنة، و»اليسار« »بتعدده« الذي وزعه على مروحة بألوان الطيف، و»الوسط« المشدود بمصالحه الى عكس اتجاه عواطفه، الى »القوى الجديدة« التي لم تستقر بعد على قاعدة سياسية محددة وما تزال مشتتة بين توجهات ايديولوجية صارمة وبين الضرورات التكتيكية التي لا يصح معها اعتماد قاعدة الحلال والحرام.
وكالعادة، وُضعت على الرف خلافات الماضي بين المختلفين، بالعقيدة او بالمصلحة، واضطر المجموع الى اثبات قدر من »الاعتدال«، حتى كادت تتهاوى الحدود بين المتطرفين على الضفتين، سواء في السياسة او في الشعار الديني المسيس.
ولعل مما ساعد على ضياع الحدود ان قوى اجتماعية جديدة قد دخلت الى ساحة الصراع الديموقراطي، تتمثل في هؤلاء المهندسين ابناء الفقراء الذين وجدوا اخيراً فرصاً للتحصيل العلمي، سواء بفضل مساعدات الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الاشتراكي (سابقاً)، او بفضل إيران الثورة الاسلامية، وكذلك بفضل المنح المدرسية التي قدمتها مؤسسات خاصة ابرزها مؤسسة الحريري.
وأياً تكن الدلالة »السياسية« المباشرة للنتائج فالمؤكد ان الاوضاع المعيشية السائدة، في ظل الركود الاقتصادي وتضاؤل فرص العمل امام الخريجين الجدد من المهندسين، قد عكست نفسها على الترشيحات والتحالفات ووجهة الاقتراع.
ان لبنان الغني بكفاءاته يعيش ازمة قاسية من بين عناوينها البطالة التي تعاني من ضغوطها نسبة كبيرة من شبابه المؤهل، ممن حصلوا تعليماً عالياً ثم لم يجدوا فرصاً لبناء حياة كريمة في موطنهم، فازدحموا على ابواب السفارات يطلبون تأشيرات هجرة، او تأشيرات زيارة الى الاقطار النفطية التي لا يمكنها اليوم، وفي ظل ضائقتها نتيجة لانخفاض اسعار النفط أساساً، او لقطعها شوطاً واسعاً في مجال انجاز بنيتها التحتية، ان تستوعب حشدهم المتزايد باستمرار.
وهكذا سيواجه المجلس الجديد لنقابة المهندسين، ومنذ اللحظة الاولى، مطالب ناخبيه الكثيرة والتي تصعب تلبيتها.
فالديموقراطية وحدها لا تطعم خبزاً.
مبروك للفائزين، والى العمل لاكمال ما باشره السلف الصالح وهو كثير ولائق بنقابة نخبة.