لنسجل، بداية، ان احداً في لبنان، وخارجه، لم يكن يتوقع ان تصدر عن فرنسا، التي بالكاد غادر جاك شيراك موقع القرار فيها، مبادرة كالتي اطلقها خلفه الذي لا يشبهه كثيرا في تصرفاته الشخصية منها والسياسية.
ولنسجل، ثانياً، ان احدا في لبنان، وخارجه، لم يكن يتصور ان يتم تطوير هذه المبادرة المرتجلة الى حد كبير، بما يعكس تطورا في موقف الدولة في فرنسا من النظرة الى الشأن اللبناني ، او بالدقة: الى المأزق اللبناني .. واستطراداً الى القوى السياسية المختلفة فيه، وهو تطور لا يجوز التقليل من اهميته، لا على مستوى تصور الحل المنشود ومواقع بعض هذه القوى (المحظورة؟) فيه، ولا على مستوى ادوار الدول المعنية به، بحيث لا يمكن تجاوزها، اذا كان القصد منع الحرب المفتوحة في لبنان، سياسيا، والمرشحة لان تتفجر أمنيا، وبكل انواع الأسلحة ولا سيما التكفيرية منها.
في اي حال لقد نجحت فرنسا ساركوزي في ان تنفض عن كتفيها عبء الطرف في الازمة السياسية الحادة التي يعيش لبنان في ظلالها الداكنة، وان تتقدم ولو بشيء من الارتجال الذي يطبع سلوك قيادتها الجديدة، لا سيما على الصعيد الخارجي الى موقع الوسيط المقبول، بل والمرحب بانتقاله الى هذا الموقع… المفتقد.
ولقد كلفها ذلك، بداية، التحرر من المنطق الثأري الذي اتسم به سلوك الرئيس السابق جاك شيراك، لا سيما في السنوات الثلاث الاخيرة، والذي تبدلت بعض شعاراته وان لم تتبدل استهدافاته.
ولعل ذلك المنطق الثأري هو الذي حول الرئاسة الفرنسية، في لبنان تحديدا، الى شريك مضارب للادارة الاميركية، فتورطت في احيان كثيرة، في المزايدة عليه تطرفا وتعنتا، بما حرمها مما تعتبره دورها التاريخي في لبنان، ومما جعل من سفيرها (الذي غدا الآن سابقا) ينجرف عن صورته الاولى ويبتعد عن موقعه الاصلي الى حد ان كثيرين اخذوا يتعاملون معه في أيامه الاخيرة على انه عضو مؤسس في تكتل 14 آذار (مهرجان المختارة وكلماته مثالا…).
لقد كانت الانكليزية، الى حين مضى، لغة طارئة في لبنان.. لكنها سرعان ما تحولت الى لغة طاردة، وباللكنة الاميركية المعروفة؟
فمن حيث المبدأ، ونظريا، يفترض الجميع، في الداخل والخارج، ان الفرنسيين اكثر خبرة بلبنان من الاميركيين..
ومن حيث الواقع العملي، كان يبدو ان الاميركيين قد اعتمدوا بريطانيا ليس فقط كحليف اساسي وانما ايضا كبيت خبرة، ومصدر للمعلومات عن المشرق العربي عموما… لكنهم لم يستفيدوا منها كثيرا في ما يخص لبنان وتركيبته التي لعبت فيها فرنسا الاستعمارية دور المهندس.. بل المؤسس.. بعكس سائر المشرق حيث كانت بريطانيا ولعلها لا تزال صاحبة الرأي وان لم تكن صاحبة القرار في المعالجة (فلسطين، العراق، الخليج…).
ثم ان السياسة الاميركية الراهنة، في المنطقة عموما وفي لبنان على وجه الخصوص، ترسم تحت تأثير تجربة احتلالها العسكري في العراق، الذي دمر هذه الدولة القوية التي كانت موضع اعتزاز العرب، دون ان تربح الحرب .. فكأنها مدفوعة بالنتائج الكارثية لحرب احتلالها لان ترد لايران ما تعتبره تصديا لهيمنتها، وان تواجه سوريا في لبنان فتسوّر حدوده لتمنع عودتها إليه، بعد كل الذي كان.
وإذا كانت الادارة الاميركية محكومة بتحالفاتها بقاعدة انها مع كل من هو مع احتلالها العراق وضد كل من هو ضد هذا الاحتلال الى حد قتاله مباشرة او بتلغيم الارض تحت وجوده او نفوذه، فليست فرنسا محكومة بهذا الموقف، بل لعل مصلحتها المباشرة في ان تتميز عنه، اذا استحالت عليها معارضته العلنية كما باشرت في الموقف التاريخي في مجلس الأمن، ثم دفعت ضريبته غالية، في ما بعد..
والموقف الاميركي من العلاقة مع ايران بداية، ومع سوريا على وجه التحديد، يأتي في هذا السياق اكثر مما يأتي لاسباب لبنانية .
اما بالنسبة لفرنسا فالامر مختلف جدا. ان لبنان في موقع القلعة الاخيرة بالنسبة للنفوذ، او فلنقل للتأثير الثقافي.. وكلنا يذكر كم بذلت فرنسا شيراك من الجهود، وكم كانت ممتنة للبنان استضافته القمة الفرانكوفونية، في بدايات عهد الرئيس لحود الذي تقاطعه الآن.
ولو لم يكن الاميركيون، المثقلون بفشلهم المدوي في العراق، قد تعثروا وواجهوا مأزقا جديا في لبنان، لما سمحوا لفرنسا بمثل هذا الدور (حتى لو لم يعتبروه تحولا).. والذي قد يساعد الآن مهمة عمرو موسى المتعثرة، والتي لخص الموقف منها السفير الاميركي في بيروت بالقول: انها لا تعنينا..
لكن الدول تستدرج الدول .. خصوصا في ظل الغياب العربي، الذي يفاقم من خطورته انقسام العرب، وهو انقسام لا يُخرج الحل من ايديهم فحسب، بل يجعله يتمّ اذا ما تم على حسابهم، سواء في ما يتصل بقدرتهم على التأثير، او ما يتصل بهوية البلد وموقعه مستقبلا… في الشرق الاوسط الجديد.
[ [ [
لقد نجحت المبادرة الفرنسية معنويا.. خصوصا وقد رافقها التراجع الشجاع للرئيس الفرنسي ووزير خارجيته، برنار كوشنير، الذي يعرف لبنان ربما اكثر مما يجب ، عن الخطأ الذي كاد ينسف المبادرة، والمتمثل في دمغ حزب الله ب المنظمة الارهابية التحاقاً بالموقف الاميركي.
اما النجاح العملي فما زال امامه عقبات كأداء كثيرة تنتظر مهمة الموفد العارف جيدا شؤون هذه المنطقة جان كلود كوسران، ومن بعده الوزير كوشنير.. فحتى الحوار في بيروت سيكون غيره في الضاحية الجميلة لباريس سان كلو، والذي جرى في اجواء احتفالية مشحونة بذكريات 14 تموز وثورتها وشعاراتها عن الوحدة والاخوة والمساواة..
وثمة كمائن كثيرة تنتظر هذه المهمة الفرنسية الدقيقة، ليس اكتشاف منظمة فتح الاسلام ، بكل مصادرها ومواردها المادية والإنسانية، إلا اول الغيث.