تابع المعنيون بمستقبل هذه الامة، وعلى مدار اسابيع طويلة، مسار الاحداث في السودان بعد الانتفاضة الشعبية العارمة التي احتل فيها شبابها وصباياها والكهول، من الوان الطيف السياسي جميعاً، شوارع الخرطوم والخرطوم بحري، والنيلين (الابيض والازرق) لمدة شهرين طويلين او يزيد..
كنت، كغيري من المعنيين، أعيش فرحاً حقيقاً بانتفاضة هذا الشعب الطيب والودود الذي عانى من دكتاتورية العسكر بدل المرة مرات، ولسنوات طويلة ذهبت بحيوية السودانيين ومستقبل جيل او جيلين منهم، وأخرجت هذا البلد عظيم المساحة والذي يمكن أن يعطي من الخير ما يفيض عن حاجة اهله، من دائرة الفعل، وحولت حاكمه الذي “قامر” بالعلاقات المجزية مع الدول الغنية، حتى جاءت “ساعة الحقيقة” فإذا الكل يتخلى عنه ويتركه لمصيره.
..على انني، كغيري، كنت اتخوف من أن يتشبث الجيش بالسلطة، وان يعاود ضباطه سيرة الدكتاتورية، مرة أخرى، غير متهيبين او متخوفين من الجماهير المليونية التي لم تتعب من ملء الشارع ، ليلاً نهاراً من دون احتكاك للعسكر..
وذات مساء ضاق صدر العسكر بهذه الجماهير الغاضبة والتي تطالب بحقها الشرعي في أن يكون الشعب مصدر السلطة فعلاً، وصاحب القرار في شؤون الوطن ومستقبل اجياله.. فإذا “ببعض” الجنود يطلقون النار على الجماهير، في الخرطوم ـ بحري، فيسقط اكثر من خمسين شهيداً، اضافة إلى العديد من الجرحى، فضلاً عن الخسائر المادية..
عاد الشعب إلى الشارع… وتزيدات اسفار ضباط الانقلاب الجديد: بعضهم قصد القاهرة، والتقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فازداد قلق السودانيين، وبعضهم قصد مكة المكرمة للمشاركة في قمم اليوم الواحد التي حاولت القول أن السعودية هي الآن المرجع الوحيد للعرب والمسلمين (ولو بمشاركة محدودة مع دولة الشيخ محمد بن زايد في ابو ظبي، الذي يبدو انه شديد التأثير على ولي عهد السعودية الامير محمد بن سلمان..)
عاد الشعب الطيب إلى الشارع، وقد ارتفعت وتيرة غضبه، ورفض العروض التي قدمها الجيش عبر الوساطة الاثيوبية ـ الافريقية.
أخيراً اضطر العسكر إلى قبول مطالب شعب السودان، ولو بحدها الادنى: أن يستعيد قراره الوطني في شؤون بلاده، في ظل انتخابات ديمقراطية تنتج نظاماً جديداً، مع حفظ كرامة الجيش، بوصفه شريكاً وطنياً.
وبرغم توقيع وثيقة الشراكة في السلطة، خلال المرحلة الانتقالية، تمهيداً لإعادة بناء النظام الديمقراطي بالانتخابات، فان شعب السودان لن يطعن في ارادته مرة جديدة..
لقد آن لهذا الشعب الطيب، المسالم، والديمقراطي، أن يعيش حياة تليق به، بعد دهور الاضطهاد والقمع التي فرضت عليه فخسر خلالها الكثير من كوادره المؤهلة لقيادة ثورة صناعية ـ زراعية في السودان الغني بكفاءاته كما بالمياه التي تجعلها من ارضه منجماً للذهب.. لكل الوانه!