كم هو حجم التنازلات؟ لِمَ هذا السكون؟ نكاد نختفي عن سطح السياسة؟ الأمة، من المحيط إلى الخليج على حافة الزوال، ونحن كالمنفيين فيها.
اعتدنا قبول السيء. أدمنَّا اللامبالاة. من يأخذ أمي اسميه عمي. من يأخذ أمتي اضع نفسي في خدمته. أمة من الخدم، تبوس اليد الطولى ولا تدعو عليها بالكسر.
لا حد يقف عنده تنازلنا. تنازل عن كل الاشياء. الربيع العربي وقف على ابواب تونس. بعدها لم تبق مدينة عربية غير مخلَّعة الأبواب. اعتدنا على العنف المستدام. صرنا لا نبالي حتى بالشنيع من الصور المنقولة والارتكابات الكارثية. مدن، ماتت. دمرت عن بكرة شعبها. دول بلا حدود. مفتوحة لكل صاحب ثروة او خديعة. دين، سرقه ابناؤه، وصنعوا منه مذبحة علنية. اعتدنا. لم نعد نحس بالعار. الحزن فارقنا. كائنات واقفة قرب جثثها. “فلسطين، فلتذهب إلى اسرائيل”. لا أحد يحرك ساكنا. غزة وحيدة. القدس يتيمة. شعبها الباسل، يعكر صفو سقوطنا وصمتنا وبؤسنا.
ارتضينا النوم في مخدع المغتصب. لا قيم بعد اليوم. فلتذهب الاخلاق والمبادئ إلى حتفها. انها ادوات لتعذيب الضمير. وضمائرنا خائرة، ترتاح من التأنيب. لقد أطلقنا النار على رؤوسنا. صرنا نشبه احذيتنا الملوثة بالخيانة.
أي شعب، هذه الشعوب المنحلة.
لا حدود لقبول واستسلامنا. كياناتنا “الوطنية” مفتونة بأميركا. اميركا تطاع فقط. تهددنا، فنهدد معها. نفذوا ولا تعترضوا. تريد معاقبة المقاومة؟ فلتشحذ سكاكين “الاخوة”. القدس ماضية إلى التهويد؟ ما حاجتنا إلى غير الكعبة. الكعبة تكفينا. ندفع اثمانها بالمليارات. مخجل جداً هذا الزمن الابدي. منذ قرن ونحن نتراجع. ما نرفضه بالأمس نقبله اليوم ونتهافت عليه. ما نحرِّمه في الماضي نجده حلالاً خالصاً في الحاضر. كيف كنا وأين صرنا؟ لا نعرف متى نتوقف عن السقوط. إننا نحفر الهاوية بأيدينا ونحرسها بأظفرنا المسنونة.
لا اتحدث عن الشعارات. اتقصد الانسان فينا. اتساءل: هل نحن بشر اسوياء؟ بشر قليلاً؟ او من صنف البشر؟ اشك بذلك، بمقدار ما اشك بنفسي. لست غريباً عن مراوغة الأوضاع. أبرر، اكذب، اطنش، اساير، أقبل، اتخلى، افتعل اسباباً لضعفي وسقوطي، احمِّل القدر مسؤولية ما آلت اليه اموري. أعوض عن نقصاني المهين، بالكلام. نحن امة تجيد الكلام الكاذب بأصوات مختلفة. راقبوا الاعلام والشاشات والانتخابات والتصريحات. أمة تموت ألف مرة، كلما ادَّعت انها على
قيد التحدي. أمة يتحدى ابناؤها أنفسهم. يقتتلون باسم الآية والنفط والسلطة والنووي. كأنها تلتذَّ بالدماء، تسفكها من اجل حفنة من البقاء فوق الركام.
لم يبق غير النفاق والشقاق. من يعترض على ذلك، فليدلني على عكسه. أهذا هو العراق؟ وأهولاء هم العراقيون؟ من يقدر أن يصف سوريا؟ هل هذه قلب العروبة النابض، ام مقصلة القضية ومنافي الناس وتكالب الدول الصغرى والوسطى والعظمى؟ اهذه هي مصر؟ يا خجل الاهرام. لم تكن يوماً كذلك. تحتفل بنشوء اسرائيل. واناصراه! لا صوت يعلو فوق صوت الذل. أهذا هو لبنان؟ انه في قعر من الاستدانة المستدامة. شعوبه تتهم الطبقة السياسية بالارتكاب والفساد والفسوق، وتذهب إلى صناديق الاقتراع كي تنتخب سارقيها ومفسديها. أي طواعية لهذا “الشعب العنيد”. ينسخ من زعمائه زعماء صغاراً، جيلا بعد جيل. مقاومة اجلت الاسرائيلي بلا قيد ولا شرط، ويحاولون حصارها بالسياسة والمال والاعلام. هي محاولات لشيطنتها بعدما اجترحت التحرير، وهي المرة الوحيدة الناصعة.
ثم، أهذه هي دول الخليج التي تبنت “عروبة” التهرب من العروبة؟ طوال عمرها كانت اسلامية، وفجأة صارت “عروبية” لتصريف فلسطين ولرفع رايتها في مواجهة “الفرس”. هذه بلاد مرغوب فيها التدفق النفطي والمالي. ارصدتها موظفة في تنمية العداء، وتعكير صفو الاسلام النقي، واستبداله بمذهبية تقاتل مذهبيات وتتواطأ مع الاميركي، في حماس يثير حروباً.
ثم، اهذه هي الجزائر وما تبقى من ثورتها؟
ترى من نحن الآن؟
لا “نحن” لنا. لسنا نحن. اننا فرادى من القبائل والكيانات والمذاهب والديكتاتوريات، بأسماء مستعارة.
أما الشعب، وما أدراك ما الشعب؟ انه حاضر بصفة غائب. غيَّبته الانظمة. اغتابه الدين بأصولياته. استلبه الغرب بفائض كلامه. فضل “مية مرة جبان، ولا مرة الله يرحمو”. يستثنى من هذه الطغمة الدهماء، قلة منذورة للإيمان بالأرض والانسان والحرية والعدالة.
ماذا بعد؟
طبعاً، لا شيء. نحن هذا اللا شيء.
[print-me]