طلال سلمان

نداء الشيخ زايد: دعوة للعودة الى الذات

وحده الشيخ زايد بن سلطان استذكر فذكَّر اخوانه الملتقين في ضيافته من قادة دول مجلس التعاون الخليجي، بالبديهية المنسية: ان المجتمعين لا يشكلون بذاتهم وبمن يمثلون »أمة تامة«، وبأن ليس لديهم »هوية« منفصلة، بل هم »بعض« العرب، وأن مرجعهم حتى لو لم يكن ملجأهم القمة العربية، بوصفها اعلى المؤسسات المنبثقة عن الجامعة العربية.
وحده، وببساطته التي يتميز بها، والبراءة التي تميزه عن الحكام جميعاً، عاد الى البديهيات، وقد جاء زمن الشدة، فالتفت الى امته العربية، ومعها الى المسلمين والعالم، مطالباً بلقاء دوري عربي ثابت الموعد وملزم بقراراته.
من زمان لم يسمع العرب مثل هذا النداء، او الحداء،
لقد انفرط عقدهم وتفرقوا ايدي سبأ، فصار لقاؤهم على مستوى القمة بعيدا كما الاحلام، بل ولعله قد غدا ممنوعاً، خصوصاً وقد اضيف الى النفوذ الاميركي الضاغط للتمكين لروح الانفصالية والفرقة بين العرب بحيث يسهل التعامل معهم فرادى، الابتزاز الاسرائيلي المفتوح والذي يكاد يصور اي لقاء عربي موسع وكأنه عمل من اعمال الحرب او لجوء الى بعض اسلحة الدمار الشامل المحظورة الا على اسرائيل!
وحده الشيخ زايد اطلق النداء، في افتتاح القمة التاسعة عشرة لهذا المجلس الذي بدأ كمؤسسة كان بين مبرراتها انها محاولة لجمع المتماثلة اوضاعهم (السياسية) من العرب، تمهيداً لان يضيفوا الى اخوانهم قوة، ولان يسرِّعوا وجوه التعاون بينهم جميعاً من خلال تجربتهم التي تتوفر لها من فرص النجاح ما لا يتوفر للباقين، والتي »ستكون قدوة وخطوة على الطريق الصحيح«.
لكن نداء الشيخ زايد ظل حداء او رجاء، ولا يبدو انه سيتحول الى قرار، لا على مستوى مجلس التعاون الخليجي، ولا خارج هذا الاطار الاقليمي، والذي يبذل البعض »مساعيهم الحميدة« لاضفاء طابع دولي عليه، بحيث يصبح قطعاً بين الخليج وبين سائر العرب، وجعله مؤسسة موازية (وبديلة) لجامعة الدول العربية.
واذا كان البعض قد فسر حضور الامين العام للامم المتحدة كوفي أنان جلسة افتتاح القمة الخليجية بأنه نوع من التحريض للمضي قدماً في اتجاه التدويل، فإن حضور الامين العام لجامعة الدول العربية بدا باهتاً وغير مبرّر، وكذلك حضور الامين العام للمؤتمر الاسلامي.
ليست الجامعة العربية ضيفاً على مجلس التعاون الخليجي، ولا يجوز ان تكون.. بل هي مرجع هذا المجلس، وموئله.
ونداء الشيخ زايد يجيء في هذا السياق: انه دعوة للعودة الى الاصول، في مواجهة الدعوات (ولو المستترة) للخروج على موجبات الالتزام القومي والتضامن العربي.
ونداء الشيخ زايد موجه للخليجيين بداية، والى العرب غير الخليجيين من باب اولى، لا سيما للدول الاساسية الفاعلة في الجامعة العربية والمتضررة من غيابها او تعطيلها.
ومن باب التذكير ليس الا فان كل الاتفاقات المنفردة التي عقدتها بعض الاطراف العربية مع العدو الاسرائيلي انما تمت خارج اطار الجامعة ثم فرضت عليها كأمر واقع.
.. بينما تعجز الجامعة عن الفعل، يتجاهل العديد من دولها، ان تلك الاتفاقات لا تعني »السلام«، وان »عملية السلام« التي استولدتها قيصرياً الولايات المتحدة الاميركية ثم تركت التطرف الاسرائيلي يغتالها، قد انتهت، وان الصراع مع »العدو« ما زال مفتوحاً لما ينته، وان دماً عربياً، عزيزاً يسيل يومياً في لبنان حيث تقاتل كوكبة من شبابه باسم كل العرب ونيابة عنهم، فتنقذ بالمقاومة الباسلة شرفهم وتؤكد ضرورة لقائهم ولو على الحد الادنى..
***
لقد انتهت السنوات السمان، وها هي السنوات العجاف تظلل منطقة الجزيرة وخليجها، فتبعث في النفوس المزيد من الخوف على الغد وتفرض لغة كان قد هجرها تماماً هؤلاء الذين منحتهم الثروة النفطية الفرصة لان يعيشوا حياة باذخة اجتهدوا في ان ينسوا معها زمن الشقاء الطويل.
انقضت »الفورة« او »الطفرة« التي ارتفعت فيها اسعار النفط، وارتفعت ايضاً معدلات الانتاج، وغطى الذهب وجه الارض بالخضرة والعمارة والطرقات الواسعة وشعشع الضوء على اتساع الصحارى فاذا هي مدن حديثة، واذا اهلها الذين عانوا الفقر والعوز طويلا يعرفون الرفاه والدعة، ويخرجون الى العالم فاذا هم حيثما حلّوا موضع تكريم او استغلال يلتحق بمواكبهم ويحتفي بهم الرؤساء والملوك واصحاب الشركات الكبرى والسماسرة وسائر اصناف باعة الخدمات.
اللغة الجديدة على الاسماع، والتعابير الموحية بالضائقة والملمحة الى نمط من التقشف، والى شيء من تخلي الدولة عن واجبات الرعاية، وعن تحمل كلفة الرفاه، تتزايد في خطب اصحاب السمو الذين لا يتقنون فن الكلام، والذين لم يكونوا بحاجة اليه لان النفط كان اصدق إنباءً من الكتب..
ليس الهمس جديداً، وليست اتفاقات الكواليس او الاستعانة بالعبارات الملمحة بغير تصريح والاشارات الغامضة التي يترك للسامع ان يفسرها، بالامور الطارئة او المستحدثة في القمة الخليجية، فتلك من اصول فن الكلام وسط أجواء هؤلاء الحكام الواضحة أنسابهم القبلية، العريقة تقاليدهم المتأثرة ببيئتهم الصحراوية والذين يعتمدون بين قواعد عملهم »استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان«، بل ان الكتمان بين اهم قواعد العمل السياسي، وعلى رأس مؤهلات »اهل الحل والعقد« او الحكم كما يسميه اهل الحضر والمتأدبون.
لم ينقص الانتاج، لكن الدخل لا يفتأ يتناقص، حتى انه اخذ يداني كلفة استخراج النفط من باطن الارض، وهذا يعني ان المصدر الرئيسي للثروة، بل للحياة يستنزف فلا يحقق الرخاء، بل لعله غدا لن يحقق الكفاية لتخسر البلاد مرتين: احتياطي الثروة وفرصة الحياة الكريمة، وهي غالية التكاليف في هذه الارض التي تدفع فيها ثمن كل شيء: الماء والتراب والنور وتلطيف الجو وأصناف الخدمة داخل البيوت وخارجها، كما في المزارع والمصانع والدكاكين وسائر وسائل الانتاج.
الأخبار صواعق: لقد تحول النفط من سلاح في يدك، وأنت صاحبه، الى سلاح عليك. لست حراً في تحديد كمية الانتاج، ولست حراً في تحديد الاسواق، ولست حراً في تحديد سعر البيع، ومن قبل، فانت لا تملك القدرة بعد على السيطرة الكاملة على الاستخراج والمصافي وتصنيع المشتقات النفطية.
لقد تعلم »الصديق الاميركي والغربي اللدود« من التجربة المرة (عليه) في العام 1973، فبدأ يعمل »لتحرير« النفط من اصحابه الاصليين، ولمنع تحكمهم بسوقه العالمية سواء بحجم الانتاج ام بالسعر استطراداً.
وها قد دقت ساعة الحقيقة: ان مصدر ثروتك هو مصدر بلائك… لا انت تستطيع تغيير نمط حياتك المكلفة، ولا انت تستغني عما انشأت من مشروعات اعمارية وانتاجية، ولا انت تستطيع تعطيل خطط التنمية، ثم انك بعد غزوة صدام حسين، خصوصاً لا تستطيع ان تبني خطط التسليح والدفاع بقدر رغبتك، بل لا بد من ان تراعي حاجتك، وهذه لست وحدك من يقررها، بل يقررها أصلا »الحليف الكبير« الذي نظم وقاد التحالف الدولي »لتحرير الكويت«، والذي تحول من بعد الى شكل من اشكال الحماية »الدائمة« لكل اقطار الجزيرة والخليج، تحسباً لغزوة جديدة لا يفتأ يلوح بها صدام حسين، فان نسي ذكّره »الحليف الكبير« فتذكر ذاك وتمدد »ضامن السلامة« بل و»حامي الوجود« وزاد الطلب على اسلحته الغالية لجيوش البر والبحر والجو، وذهب الدخل النفطي هباء اي ثمناً للمزيد من الحديد واسلحة الدمار!
في سياق هذه »الحرب المفتوحة« كان منطقياً ان يتم التركيز، عبر المخاوف، على هوية خاصة لهؤلاء المهدّدين في وجودهم، والذين جارهم الخطر من طرف يزايد في »عروبته« على الجميع، اذ يبلغ بها حد التوحيد بالقوة!
وكان منطقياً، من بعد، ان يصار الى التركيز على »الخليجية« كمشروع هوية، وان يتحول مجلس التعاون الخليجي الى »ناد خاص« لاغنياء العرب مغلق دون فقرائهم، ثم ان يتركز الجهد لجعله بديلا من الجامعة العربية ومؤسساتها المختلفة، بما فيها مؤسسة القمة، وان يزين البعض لانفسهم وللآخرين محاسن تحويل المجلس الى مؤسسة اقليمية فدولية، لاغية للجامعة العربية او رديفة او موازية، في احسن الحالات.. تغني عنها بالتأكيد، وان هي لم تسع الى نسفها.
لكن ذلك حديث آخر،
فلنعد الآن الى ما طرحه رئيس دولة الامارات: اي الى دعوته لاحياء مؤسسة القمة العربية، وبالتالي الى حماية الجامعة العربية، ورفض اعتبار مجلس التعاون مؤسسة دولية بلا هوية محددة.
صار المنطقي ثورة، وصار ما هو طبيعي اشبه بالانقلاب.
وفي هذه اللحظة بالذات، تبدو دعوة الشيخ زايد اشبه بعودة الى الذات ونداء للآخرين بالتوقف عن الركض وراء الاوهام.
.. وهو عمل ثوري، اذا ما تذكرنا المنبر والمناسبة والمناخ السائد.

Exit mobile version