طلال سلمان

ناخبون خارج مبادرات

… ها هو الوضع في لبنان يستنقع من جديد، فتتوارى المبادرات، سواء منها تلك المرتجلة أو تلك المطلوبة لزوم التهدئة ، إما بذرائع الإجازات الصيفية، أو في انتظار تطورات معينة على الصعيد الإقليمي ، أو بأمل أن تعود القيادات اللبنانية إلى رشدها فتنتبه إلى المخاطر المصيرية التي تتهدد وطنها إلخ…
لكن هذه القيادات، بمعظمها على الأقل، وكما دلت الانتخابات الفرعية، تواصل محاولتها لإفقاد اللبنانيين البسطاء رشدهم، فتستخرج من جعبتها التي لا تنضب مزيداً من السلاح المسموم، بأمل أن تعوّض ما لا يعوّض من رصيدها الشعبي .
لقد قدّم عدد كبير من المرشحين (المفترضين أو الجديين أو المتربصين) وكذلك حلفاؤهم الكبار ومساندوهم عرضاً اختلطت فيه الدراما بالمهزلة، وأفانين الدجل السياسي بالإثارة الطائفية…
ومن أسف فإن معظم الذين بادروا إلى تبرير الهزيمة التي مُني بها حلفاؤهم قد استخدموا منطقاً لا يقل تعصباً، بالمعنى الطائفي والمذهبي والعنصري، عن الذين تكفي تجربتهم سبباً حتى بالمقارنة مع منافسيهم لخروجهم من الحياة السياسية عموماً..
لكن الناخب اللبناني، مع الأسف، أقسى على نفسه منه على القيادات السياسية، خصوصاً تلك المحصّنة بالشعار الطائفي أو المذهبي.
إن هذا المواطن الناخب يمضي أيامه بين كل جولتين انتخابيتين كأي مخلوق طبيعي: مشاعره طبيعية، له صداقاته الطبيعية مع مواطنين طبيعيين مثله، يتبادلون الود الطبيعي، يتزاورون ويتبادلون التهاني في الأعياد، يتقبّلون التعازي معاً ويتشاركون في الحزن الطبيعي.
… حتى إذا جاءت الانتخابات ولعلعت الدعايات والشعارات وارتفعت أعلام الغرائز والعصبيات، طمس ذلك المواطن الذي صار ناخباً كل ما هو طبيعي فيه وجاءه من يستخرج من صدره عواطفه الطبيعية ليهيّج فيه كراهية الآخر والضيق به، وليصوّر له أن الدنيا لا تتسع له وللآخر معاً ولا بد لأحدهما أن يلغي الآخر، لأن الهزيمة في هذه المعركة المصيرية هي نهاية الدنيا..
ومع أن هذا المواطن غالباً ما يكون قد سبق له أن دخل في معارك انتخابية عدة ففاز مرشحوه أحياناً وخسروا أحياناً ولم تنتهِ الدنيا، إلا أنه في كل مرة يصدّق أن هذه المعركة بالذات هي التي ستقرّر مصير الطائفة أو الدين أو الكيان أو كل ذلك معاً..
يصدّق مع وعيه أن كل ذلك إنما هو من لزوم الإثارة الانتخابية، وأن من يطلق صرخات الحرب هذه سوف يصالح خصمه بعد يوم أو شهر أو سنة، من دون أن يسأله رأيه، وبالطبع من دون أن يشرح له أسبابه، أو خاصة من دون أن يعتذر منه لأنه خدعه وغشه… وأفقده أصدقاءه ورفاق عمره، وسمّم جو علاقاته بناسه، شركائه في الوطن وفي المصير.
ما علاقة هذا الحديث بالوضع الذي استنقع من جديد؟!
لو أن هذا المواطن يحاسب فعلاً قياداته، وهذا بين بديهيات الديموقراطية، وتحمّل مسؤولية القرار، لما كانت تلك القيادات ذات التاريخ الذي لا يمكن وصفه بالأبيض، (فضلاً عن أن يكون مشرّفاً..) تجرؤ على خداعه مرة ومرتين وثلاثاً، مرة باسم كرامة الطائفة، ومرة باسم حماية السيادة والقرار الحر، ومرة ثالثة باسم كرامة الرئاسة أو القيادة و الرموز و العائلات التي لا تجوز إزاحتها عن موقع القرار لأن في ذلك إهانة للطائفة عموماً، وللناخب شخصياً على وجه الخصوص.
وبديهي أن عواصم القرار ، بدءاً بواشنطن وانتهاءً بالعديد من العواصم العربية، تفضل من القيادات تلك المثقلة بالأخطاء والخطايا، وتلك الأصرح والأعلى صوتاً في الجهر بطائفيتها ومذهبيتها: إنها الأقل كلفة والأطوع والتي لا تناقش، والتي تعتبر أنها تختصر بشخصها الطائفة بل الشعب جميعاً والكيان بل الكون.
… وكثير من أولئك القادة اغتنموا فرصة الانتخابات الفرعية في المتن ليقدّموا ترشيحاتهم الرئاسية من فوق الضحية الجديدة لحروب الإلغاء المفتوحة، بعد.
وتستطيع المبادرات أن تنتظر، فليس بين المبادرين أي مرشح… أما المرشحون فلسوف يأكلون بعضهم بعضاً قبل أن تدق الساعة !

Exit mobile version