مؤتمر الوجوه الأليفة ..
*****
لا مفاجآت في المؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي اللبناني: لا في الشكل ولا في المضمون،
لا مفاجأة في الحضور، سواء الضيوف من أشقاء وأصدقاء، من رفاق ومنافسين (سابقين؟)، ولا في الحزبيين التقليديين منهم أو المجددين، ولا في الرسميين الذين جاؤوا، كما تعوّدوا أن يجيئوا بعدما بات الحزب »شرعيا«، ولعلهم اليوم يريدون أن يؤكدوا أكثر منهم بالأمس ما يتعدى المجاملة الى إعلان الالتزام بالديموقراطية وحرية الرأي والتعددية في ظل »العهد الجديد« الآتي رئيسه من قيادة الجيش.
لولا بعض التبديل في مواقع الجلوس لأمكن الافتراض انها صورة من المؤتمر الوطني السابع لهذا الحزب العريق (75 سنة): فالوجوه الأليفة والمتعبة، والتي تحمل في ملامحها المتغضنة تاريخا طويلا من النضال، تتراصف من حول الطاولات الأليفة في ذلك المسبح الأليف على شاطئ البحر الذي كان متمردا فجرى تدجينه حتى بات أليفا مع الذين كانوا يتهيّبون التشطيط فيه.
الوجوه أليفة ومحببة، والذاكرة أغنى من الخيال، والأفتى من بينهم كهل، وثمة من يثقل عليه تاريخه ليحتاج مساعدة في الحركة: هل تغني الحكمة عن الشباب؟! هل تعوّض الشخصيات عن التيارات المتجددة والمجددة والمعبرة عن حركة الحياة؟ هل تغني القيادات التاريخية عن الأحزاب؟ هل يغني »الديموقراطيون« عن الحزبيين؟! قد تعوضنا الذكريات الماضي، ولكنها لا تدخلنا المستقبل.
الشعار هو الشعار. العلم هو العلم. الجمهور هو الجمهور. لكن الزمن ليس جامدا، بل هو لا يفتأ يفعل فعله في الناس والمجتمعات والدول، والفكر نهر متدفق يجري متخطيا الإشكالات والمشكلات، يبتدع النظريات ويستنبط الحلول لما كان يظن انها أزمات لا تحل. والحاجات الإنسانية تتجدد وتتعدد، فإذا بالعقل يعمل لاستيعابها ومنطقتها وابتداع المعالجات الضرورية لها، سواء على مستوى الحكومات والاجراءات التنفيذية أو على المستوى النظري وحده، في انتظار القادر على الانتقال بها من النظرية الى التطبيق.
… والأزمات هي الأزمات، بل لعلها قد توالدت فتزايدت وكادت تسد الطريق إلى الحلول، خصوصا وأن التجاهل مثل اللعب بالكلمات أو عليها لا يحل شيئا.
كثير من العزف المنفرد، ضجيج عظيم للنقاش، لكن الحوار قليل، ومع غياب التصور لحلول جدية وحاسمة وقريبة، فإنه يفتقد جدواه ومن ثم حرارته.
لا مفاجآت. المفاجأة الوحيدة قد تكون في أن المؤتمر قد انعقد، برغم الصعاب، وبكامل هيئته، فلا انشقاقات ولا كتل ولا محاور تضرب وحدة الحزب وان أنقص الجمود حيويته.
ليست تلك أزمة الحزب الشيوعي اللبناني وحده. هو استطاع، على الأقل، أن يعقد مؤتمره الثامن، وفي موعده، بينما العديد من الأحزاب العربية الأساسية لم تعد تملك أن تمارس مثل هذا الترف. ثم انه استطاع أن يصمد للاختلاف في الرأي داخله، بينما ذهبت الاجتهادات المتعارضة بكثير من الأحزاب »الحديدية« التي تعذر عليها تطوير ذاتها، إما بسبب من بلادة الفكر فيها أو من جمود »التنظيم«.
الكلام كثير، أكثر مما يجب. الأفكار قليلة، أقل مما يجب.. أما السياسة فخليط متنافر من التقديرات يلامس بعضها الضرورات في حين يراعي بعضها الآخر المحظورات، فإذا النص مرتبك نوعا ما، تجتهد صياغته المتعبة في التوفيق بين كثير من التناقضات ووجوه الخلاف في الرأي… ولذا فهو فاقد البريق (ككل النصوص السياسية هذه الأيام) لا يتضمن جديدا يدهش أو وعدا يستثير الحماسة، أو نقدا جديا يهز ثوابت اليقين الذي نخاف من تحريكه حتى لا نفقده.
يعلو التصفيق فقط عند ذكر المقاومة أو أسماء بعض الشهداء أو بعض »الخالدين«.
كأنما لم يتبق غير الدم طريقا للحياة.
* * *
الأزمة ليست فقط في تلك القاعة الأليفة التي تحتشد فيها الوجوه الأليفة والشعارات الأليفة والتمنيات الأليفة التي شاخ أصحابها وما بدلوا تبديلاً.
الأزمة في الشارع. الأزمة في البيت، في المجتمع. في الصحيفة، في الكتاب. في النادي، في الحزب. في النقابة. في الحكومة، في المجلس النيابي.
الأزمة هائلة ومعقدة ومتعددة الوجوه حتى لتكاد تسد الطريق على الغد.
وهي أزمة سياسية فكرية، اجتماعية اقتصادية شاملة لمختلف جوانب الحياة.
ومن حق الحزب الشيوعي علينا أن نعترف له بالشجاعة. فعقد المؤتمر، بحد ذاته، فعل شجاعة، لا سيما وأن لا حل لمعضلاته الكثيرة والتي اعترف بها صراحة أو تلميحا.
لكن مواجهة الأزمة تحتاج جهدا أكبر، ومن الجميع.
وهي أزمة تعصف بالمجتمعات العربية جميعا، أنظمة وأحزابا وهيئات وتكاد تخلخل كياناتها، ناهيك بمقدساتها ومعتقداتها وثقتها بنفسها وبقدرتها على مواجهة أعباء الحياة في ظل هذه التحولات الهائلة التي تعصف بالعالم كله.
ولنتذكر فلسطين، العراق، والجزيرة والخليج، وليبيا والجزائر و…
ولنتذكر أيضا أنه عالم بلا معسكر اشتراكي يقوده الاتحاد السوفياتي العظيم.
ولنتذكر، أخيرا، ان الشباب في قلب الأزمة يعاركون ولا معين..
مع ذلك فالشمس ستشرق غدا، ولا بد أنها ستضيء القلوب والأفكار والطرقات.