على امتداد الأسبوع الماضي كان »مؤتمر الدوحة« والموقف منه، بالمشاركة أو المقاطعة أو الاعتراض المشروط، هو الشغل الشاغل للعواصم العربية، ومعها واشنطن التي أعادت التأكيد على »أمر العمليات« الصادر عنها بضرورة انعقاده والمشاركة العربية الواسعة فيه، وكأنها »راعيته« قبل إسرائيل وأكثر منها.
كانت البداية الموقف الحاسم الذي أعلنه ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، عبر حواره مع »السفير« المنشور يوم الإثنين الماضي،
بعده توالت ردود الفعل وما تزال تتوالى مشكِّلة إطارا جديدا للعمل العربي الرسمي في هذه اللحظة السياسية التي يحكمها التطرف الإسرائيلي بانعكاسه المباشر والقوي على الإدارة الأميركية بحيث عطّل دورها كراع »للعملية السلمية« ونسف مؤتمر مدريد وأسقط الاتفاقات البائسة التي سبق ان وقّع عليها بعض العرب، وأشهرها »اتفاق أوسلو« الذي مات قبل أن يحل ألغازه المعنيون به.
في »السفير« قال الأمير عبد الله: لن نحضر مؤتمر الدوحة، وقد أبلغنا إخوتنا القطريين بموقفنا، ونصحناهم بصرف النظر عنه، في هذه الظروف، كما أعدنا توكيد موقفنا للأميركيين حين طلبوا إلينا المشاركة فيه، مشددين على أننا أصدقاء ولكن لنا سياستنا ولهم سياستهم، ولنا مصالحنا ولهم مصالحهم، واننا لا يمكن أن نشارك في مثل هذا المؤتمر بينما التطرف الاسرائيلي يواصل حربه الاستيطانية داخل فلسطين، ويمارس إذلال أهلها يوميا، وبينما القدس تضيع…
بعد يومين فقط أعلنت واشنطن موقفا ملفتا في عدائيته، إذ قال المتحدث باسم خارجيتها نيكولاس بيرنز: »نحن غير مسرورين، ونشعر بخيبة أمل من إعلان حكومة عدم المشاركة. اننا نشجع جميع الحكومات العربية على الحضور… تكفينا 49 عاما من منطق المقاطعة، على بعض الدول أن تقف وتتحمل مسؤولية القيادة وتكون مستعدة للمجازفة من أجل السلام«..
قبل واشنطن كان النواب في الكويت قد توجهوا الى الحكومة يطالبونها »بمقاطعة المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا« المنوي عقد دورته الرابعة في الدوحة في الخريف المقبل،
ثم صدر عن الرئيس المصري حسني مبارك موقف ملفت مؤداه ان بلاده لم تتخذ بعد قرارها بالمشاركة في المؤتمر،
بعد يومين أعاد وزير خارجية السعودية الأمير سعود الفيصل التشديد على مضمون تصريحات الأمير عبد الله ل»السفير« لأنها »واضحة وليس لي أن أضيف إليها شيئا«، وإن كان لخص الموقف بقوله: »ان المشكلة ليست في موقف مصر أو السعودية، ولكن في الموقف الاسرائيلي الذي أخل بالأمور بسبب التنكر للاتفاقات والالتزامات ووقف المفاوضات على كل المسارات وبناء المستوطنات وآخرها الملصقات على المستوى الشعبي«.
ثم، وخلال زيارة الرئيس رفيق الحريري للمغرب، نُقل عن الملك الحسن الثاني، ثم قالها رئيس حكومته عبد اللطيف الفيلالي علنا أنه يستبعد المشاركة في مؤتمر الدوحة، مشيرا الى ان بلاده استضافت مثل هذا المؤتمر ولكن »في ظل أجواء تقدم في عملية السلام، وليس هذا هو الحال الآن..«.
وارتبك الموقف الأردني، ففي حين كان رئيس الحكومة عبد السلام المجالي قد أعلن في ما يشبه الرد على تصريحات الأمير عبد الله، ان بلاده ستحضر مؤتمر الدوحة، عاد المجالي نفسه يؤكد بعد زيارته القاهرة ولقائه الرئيس مبارك: ان القرار في هذا الشأن عربي، فإن قرر العرب المشاركة شارك الأردن،
بل ان المجالي انتبه، متأخرا، إلى حقيقة منسية: ان السلام لن يكون دائما إلا إذا كان شاملا، وان »لا سلام من دون سوريا ولبنان وطبعاً الفلسطينيين«.
بالمقابل فقد أعلنت وزارة الاعلام في دولة الامارات العربية المتحدة وبلسان الشيخ عبد الله بن زايد بن سلطان انها »ستقاطع مؤتمر الدوحة إذا لم تظهر دلائل واضحة على انفراج في عملية السلام«…
كما أكد مسؤول خليجي ان المساومات في عملية السلام شيء والقدس شيء آخر لأنها ليست قضية فلسطينية فحسب ولا هي قضية عربية فحسب«.
وقال مصدر خليجي آخر: ان إصرار قطر يزيد الأمر سوءا..
ولم تكن سوريا بحاجة لتأكيد موقفها المبدئي والثابت، ومع ذلك فقد جدد الرئيس السوري حافظ الأسد، أمس الأول، إعلان هذا الموقف القاطع برفض المشاركة في مؤتمر الدوحة، مذكرا أن دمشق لم تحضر من قبل الدورات الثلاث السابقة في كل من الدار البيضاء وعمان والقاهرة.
أما جامعة الدول العربية فقد أمل ناطق باسمها أن تعيد قطر النظر، معتبرا انه ما »زال هناك إمكان للنظر في عدم عقد المؤتمر«.
* * *
هل تكفي هذه المواقف المعلنة، رسميا، لكي تجعل المسؤولين في قطر يعيدون النظر في قرارهم، وفي التزامهم استضافة هذا المؤتمر الذي صُوِّر، منذ البداية، وكأنه »مكافأة« لتوجه القيادة الإسرائيلية (السابقة) نحو »سلام ما« مع العرب، وهذا التوجه على فرض انه كان قائماً قد »مات« مع تلك القيادة التي أسقطها الإسرائيليون بالرصاص كما بالانتخابات.
ان الرافض الحقيقي »للسلام«، ولو بشروط غير عادلة، هو التطرف الاسرائيلي الذي يحتل قمة السلطة، والذي لم يوقف حربه الاستيطانية يوما واحدا، والذي قطع المفاوضات مع كل العرب، يستوي في ذلك الصامدون على مواقفهم المطالبة بتسوية مقبولة وقابلة للحياة كسوريا ومعها لبنان، و»المهرولون«، و»المسحوقون« تحت الضغط الاسرائيلي، اليومي المتواصل كسلطة عرفات التي قدمت كل ما تستطيع تأمينا للأمن الاسرائيلي، ومع ذلك يرفض نتنياهو مجرد »التفاوض« معها على نقاط تفصيلية جدا لا تقيم أساسا لبلدية ناهيك بالدولة العتيدة..
وبديهي والحالة هذه ان يوقف بعض العرب تقديم الجوائز لهذه القيادة الاسرائيلية التي لا تعترف بهم، ولا بحقوقهم في ارضهم، وان يمتنعوا عن تجميل صورة هذا »المحارب« الجديد المهووس بالعنف والرافض لأي نوع من الانتماء الى المنطقة، والى المشاركة »معهم« في بناء الحلم البيريزي المجهض حول »الشرق الأوسط الجديد«.
لم تكن قطر في أي يوم أقرب الى الولايات المتحدة الاميركية من السعودية، مثلا، او من المغرب، او من مصر، فلماذا تتصرف وكأنها وكيلة المصالح الاميركية في المنطقة، وبالذات في امر يمس سلامة الامة جميعا لكي يحمي بل ويحرض التطرف في اسرائيل وحروبه المفتوحة ضد عروبة القدس والارض الفلسطينية، ناهيك بحق كل من سوريا ولبنان في اراضيهما المحتلة؟!
تستطيع قطر ان توازن الضغط الاميركي بالضغط العربي كما قال الأمير عبد الله خصوصا وان الاطراف العربية الاساسية قد اعلنت مواقف يمكن ان تساعد قطر على هذه الموازنة ومن ثم التوازن.
فماذا ينفع قطر ان تربح طرفا في واشنطن وتخسر نفسها اضافة الى اهلها العرب؟!
لقد تحول مؤتمر الدوحة الى ساحة صراع يقف اكثرية العرب في جانب، ويقف الانحياز الاميركي الى اسرائيل، على حساب المشروع المندثر بسلام ما، في الجانب الآخر… ولسوف تخسر قطر على الجانبين: فلا هي ستنجح في استقطاب العرب وتقديم نفسها كمحاور باسمهم، ولا هي ستربح الرضا الاميركي حين تفشل في تأمين الحد الأدنى من المشاركة في ذلك المؤتمر الذي لم يعط لغيرها من قبل ما توخته من فوائد، وما تتوخاه الدوحة الآن.
انه مؤتمر اسرائيلي يعقد بإرادة اميركية على ارض عربية، ولن ينتج عنه إلا عزلة قطر، وخسارتها ما تبقى لها من رصيد، حين يقال انها اصرت على استضافة من يقتل العرب يوميا ويهين رسولهم، ويمزق قرآنهم الكريم ويخرجهم نهائيا من القدس ويجعلهم عبيدا في ارضهم الفلسطينية… وكل ذلك بأموالهم ونفطهم وغازهم الوفير.
لقد انفتح الصراع على مصراعيه، مع ان المؤتمر بعد أربعة شهور،
وسيكون على قطر ان تدفع، كل ساعة، عبء هذا الصراع المفتعل، خصوصا وهي ستتسبب في اشعال خلاف عربي عربي، اي في اضعاف الموقف العربي، مجانا لحساب اسرائيل، وهذا ما لن يقبله منها احد، لا سيما وان عذرها فيه لا يقنع احدا.
وواضح ان نتنياهو ليس بحاجة الى مثل هذه النجدة،
كذلك فلن تخسر واشنطن كثيرا إذا ما فقد نتنياهو فرصة اقتحامه عاصمة عربية بينما يطارده العالم كله باللعنات لجرائمه اليومية ضد الفلسطينيين (واللبنانيين)، ولتعنته ولمجافاته روح العصر.
والكلمة بعد للدوحة، خصوصا وقد قال الجميع كلمتهم من الضفة الأخرى.