تتجاوز الدلالات السياسية للمذبحة المنظمة في كاتدرائية النجاة للطائفة الكلدانية في الكرادة، قلب بغداد، بشاعة القتل الجماعي بإرهاب التعصب والعمى السياسي.
كذلك فهي تتجاوز الاستهداف المباشر لجماعة دينية (عرقية) بالذات، وكل ما يذكر باستئصال جذور التاريخ، في سياق يشابه التطهير العرقي لتزوير الماضي بما يشوّه الحاضر ويدمّر المستقبل.
إنها، ككل عمليات الإبادة الجماعية تتجاوز باستهدافاتها طائفة بالذات لتصيب تاريخ الوطن وإنسانه والأرض وأهلها، وتتجاوز الانتماء الديني أو العرقي لتصيب الهوية الوطنية. إنها تشرخ الإنسان إذ تنكر عليه حقه في وطنه بسبب من عرقه أو دينه.
إنها مذبحة ضد «الوطن» جميعاً، وضد شعبه بكل «مكوناته». ضد المستقبل قبل أن تكون ضد الحاضر، ومن قبله الماضي المشترك الموحَّد والموحِّد.
إنها محاولة لاغتيال الهوية الجامعة بدماء من وحّدتهم الأرض والحياة، بهمومها والطموحات، بأفراحها والأحزان، بالمخاوف والأحلام، ببهاء الانتصار وأحزان الخيبات والانكسار أمام قوى الطغيان والاحتلال.
إنها مذبحة في كل عاصمة عربية. إنها مذبحة للعرب من أدنى أرضهم إلى أقصاها.
إنها محاولة لاغتيال الغد في كل أرض عربية من العراق إلى اليمن جنوباً، ومن لبنان إلى المغرب في التخم الأقصى، مروراً بفلسطين التي تريدنا أن نتعلم من مأساتها فنهرب منها إلى جهلنا وإلى مقاتلة الذات.
لم يعد للعربي هوية وطنية أو قومية، أُسقط عنه انتماؤه إلى أرض محددة، وإلى مشروع سياسي يجسّد آماله في دولة. أُسقط عنه تاريخه بالماضي منه والحاضر، وضُرب طموحه إلى مستقبل أفضل. لم يعد «مواطناً». جُرّد من انتمائه إلى مجتمع بالذات، هو بعضه، وهو شريك مع من وعى عليهم إخوة وأقارب وجيراناً، في الآمال كما في الهموم، في تمنيات الغد الأفضل، وفي العمل من أجله.
تمّ تجريد العربي من ثوابت شخصيته وأعيد إلى وهدة الفتن والحروب الأهلية ليغدو مخلوقاً خائفاً ومخيفاً، يُرعب الآخرين ـ أهله ـ ويصيبه الرعب منهم. يُحرَّض ضدهم حتى يكاد ينكرهم بذريعة أنهم قد أنكروه ونبذوه واتخذوه عدواً، بينما هم تلقوا ـ بالمقابل ـ تحريضاً مضاداً يجعله، هو بالذات، عدوهم المتربّص بهم والذي سيغدر بهم في أول فرصة.
أُفسد الهواء فصار الناس يتنفسون الحقد والغل والبغضاء،
تمّ تشويه كل ما يجمع، وصار الإيمان بالمصير الواحد تجديفاً، أو تخريفاً أو هروباً إلى الأحلام بل الأوهام الطفولية.
يجري ضخ الكراهية بألسنة القادة وكبار المسؤولين مدنيين ورجال دين، سفراء وموفدين دوليين. طُويت صفحات القرابة والمصاهرة والمصالح والتوحّد في وقائع الحاضر والأحلام المتصلة بالمستقبل.
تمّ تسميم المناخ، صار الناس يتنفسون البغضاء والغل حتى الاختناق.
مع ذلك كله، لا يتحرك مَن عليه التحرّك، من أهل النظام العربي إلى القوى الحية في المجتمعات العربية، أحزاباً وشخصيات لها مكانتها، مفكرين وقادة رأي، ولا يبذلون الجهد لوقف المذبحة التي لن تستثني بلداً، وستمتد نارها إلى كل طائفة ومذهب، في مشارق الأرض كما في مغاربها.
إن الإنذارات بتدمير مستقبل الإنسان العربي، قبل دوله، تتوالى، ولا من ينبّهه الإنذار فيتحرك لوقف الكارثة.
ولا يجد واحدنا مَن يتوجّه إليه مستنجداً أو مستغيثاً،
لمن نوجه الشكوى إذن؟
للناس، لأنهم أصحاب الحاضر والمستقبل.
أيها الناس: احموا أبناءكم وأحفادكم وأوطانكم وتاريخكم قبل أن تدهمنا الكارثة.