طلال سلمان

مستقبل <عراقي> عرب برعاية سفاح اميركي

لم يستوقف الرقم المرعب لضحايا الاحتلال الأميركي للعراق أحداً، لا في مشرق الأرض العربية، ولا في مغربها: أكثر من ستمئة وخمسين ألف قتيل عراقي خلال أربعين شهراً، عدا عن الدمار المريع، وتفسخ الكيان السياسي وانهيار الحدود المركزية وانفصال الأكراد والفتنة التي ذرّت قرنها بين العرب في أرض الرافدين!
أكثر من 650 ألف قتيل، بالغارات الجوية، بالنسف، بالسيارات المفخخة، بالكمائن الطائفية والمذهبية، بعمليات الدهم والمطاردة اليومية، أكثريتهم الساحقة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و40 سنة، والذين كانوا يشكلون بعضاً من أمل العراق في غده… وكل ذلك بفضل الاحتلال الأميركي وبإشرافه المباشر وبرعاية أكاذيب الرئيس الأميركي عن مسيرة العراق إلى الاستقرار!
مع ذلك لم يتحرك أحد استنكاراً أو احتجاجاً أو شجباً أو تنديداً إلخ.. لم تخرج تظاهرات الغضب للتضامن مع الضحايا، وللمناداة بالرد على المتسبّب في هذه المذبحة المفتوحة التي تلتهم حاضر العراق ومستقبله، ومعه بالضرورة حاضر الدول المحيطة به ومستقبلها.
لم يرفع أحد من المسؤولين العرب صوته، ولا قررت حكومة عربية مساءلة الإدارة الأميركية أو الاحتجاج لديها على هذه المذبحة المفتوحة والتي تتهددهم في أقطارهم، قريبها والبعيد.
أما أن لا تتحرك أي من الحكومات العربية فهذا مفهوم، لأنها جميعاً لا تملك قرارها ولا تجرؤ على إظهار الاعتراض على السياسة الأميركية تجاه العرب عموماً، وتجاه حق العراقيين في الحياة خصوصاً، وبالاستطراد الاعتراض عليها في تحالفها الثابت مع إسرائيل على الدم الفلسطيني وفي سعيها لإسقاط التجربة الديموقراطية في الأراضي الفلسطينية.
وأما أن تتلقى الجماهير العربية أخبار هذه الجريمة الأميركية ضد الإنسانية المرتكبة بحق العراق والعراقيين فلا تتحرك، ولا تظهر اهتماماً، لا تعبّر عن حزنها ولا عن غضبها، وتواصل الاستكانة إلى تخدير أنظمتها لها بأن الإدارة الأميركية مهتمة بأن تحقق للفلسطينيين دولة على بعض أرضهم، ومعنية بأن توفر للبنان سلامه الأهلي، ومعنية بأن توفر لمصر الرفاه، ومعنية بأن تحفظ لأقطار الخليج أمنها، ومعنية بأن تتقدم السعودية إلى موقع قيادي..
.. أما أن يواصل العرب في مختلف ديارهم حياتهم وكأن أمر العراق، دولة وكياناً موحداً لا يعنيهم، وأن هدر دماء العراقيين وتحريض بعضهم ضد البعض الآخر لن يؤثر على حياتهم في أقطارهم، قريبها والبعيد، فليست بشارة خير بمستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً من حاضرهم المسكون بالخوف المتعدد الوجوه: الخوف من حاكمهم، والخوف من بعضهم البعض بعدما ضربت وحدتهم خلف أهدافهم الوطنية، والخوف من إسرائيل، والخوف من الأميركيين (ويمكن أن نضيف، للانسجام مع الموضة الدارجة: والخوف من الإيرانيين)..
إن البحث الميداني الذي أجرته كليتا الطب في جامعتين محترمتين: أولاهما والأساس فيه جامعة هوبكنز الأميركية والثانية هي جامعة المستنصرية العراقية، والذي شمل 1849 عائلة في 16 محافظة عراقية، تضم 12801 شخص موزعين على 47 عينة، إنما يكشف حجم الفضيحة العربية بقدر ما يكشف حجم الجريمة الأميركية.
إن العرب ما زالوا مدموغين بالإرهاب بسبب العملية التي لا يقرها ضمير والتي نفذها شبيبة متعصبون يعميهم الجهل تحت قيادة أسامة بن لادن، في نيويورك..
فأين تلك الجريمة التي تتحمل مسؤوليتها عصبة من المتطرفين من هذه المذبحة الأميركية المفتوحة في العراق (والمذبحة الإسرائيلية المفتوحة في فلسطين)، والتي نفذت تحت رعاية قوات الاحتلال الأميركي للعراق وبمشاركتها الفعلية.
إنها مذبحة يومية ضد شعب عريق وعظيم كان بين أوائل بنّائي الحضارة الإنسانية، ومرتكبها هو مجرم بحق الإنسانية… ولا ينفع أن يقلص الرئيس الأميركي جورج بوش أرقام الضحايا فيجعلهم ثلاثين ألفاً فقط لا غير!
مع ذلك ينشغل العرب عن حاضرهم بالفتنة بين العناصر المكونة لهويتهم وتاريخهم، وينشغلون عن مستقبلهم بالخوف من جلاديهم..
أليس ما نشهده في بيروت من توترات ذات طابع طائفي ومذهبي هو هرب من ميدان المواجهة الحقيقية مع العدو الحقيقي إلى إنهاك الذات في حرب ضد الذات لا يفيد منها إلا من هدر ويهدر دماء الأمة جميعاً، سواء أكان حاكماً طاغية أم محتلاً أجنبياً فكلاهما يقهر الإرادة ويصادر الحاضر والمستقبل.
وواضح أن خيار العرب في مستقبلهم ينحصر بين النماذج اللبنانية والفلسطينية والعراقية، أو في خلطة منها جميعاً طالما لم يحفظوا أرضهم بدمائهم ولم يحفظوا دماءهم بمواجهة من يهدرها وليس بالهرب من مواجهته.

Exit mobile version