بين لحظات الفرح النادرة في ايام البؤس الوطني والقومي ان يستقبل لبنان ضيفا عربيا عزيزا وكبيرا بموقفه قبل مقامه هو الأنبا شنوده، بابا القبط بمصر.
وبرغم ان هذا المرجع الديني الرفيع المستوى قد جاء بدعوة خاصة ولمناسبة خاصة لها اهميتها عند واحدة من الطوائف اللبنانية، فان كل مواطن يعتبر قدوم الأنبا شنوده تكريمù شخصيù بقدر ما يرى في زيارته قبسù من نور الصح يشق ليل الخطأ الساجي والذي يشارك في صنعه او تعميمه العديد من المرجعيات السياسية والروحية بالتضامن والتكافل مهما كثر الحديث عن التعارض الى حد التناقض.
وبين أسباب الحفاوة الخاصة ببابا الاسكندرية ان الناس باتوا يعيشون بذاكرتهم وذكرياتهم الجميلة النادرة المختزنة فيها اكثر مما يعيشون في واقعهم الكريه والذي تتزايد بشاعته على مدار الساعة.
وما يتذكره الناس عن الأنبا شنوده انه نجح نجاحù مذهلاً في تجاوز الموقف الطائفي او رد الفعل الطائفي حين تصدى للقرار الخطأ للحاكم الظالم، فاذا هو يحمي شرف مصر من آثار انحراف حاكمها، واذا هو يؤكد بموقفه ان المفهوم الاصيل للدين لا يمكن ان يتعارض لا مع الكرامة الوطنية ولا مع السلامة القومية،
وبمعنى من المعاني فقد جسد موقف رجل الدين القبطي وحدة المصريين وبلور تطلعاتهم الوطنية وذاد عن نظافة تاريخهم وكل ذلك كان مهددù نتيجة جريمة التفريط التي ارتكبها الحاكم »المسلم«.
كان السادات مشروع زعيم وطني في مصر، ومشروع قائد للعرب في كل ارضهم، ومشروع قدوة لقادة المسلمين في مختلف ديارهم، لكنه اختار طريقا اخرجته من هؤلاء جميعا وعليهم، وحولته الى دكتاتور مغرور قزَّم مصر وحقَّر دورها وجعلها مجرد جرم صغير يدور في الفلك الاسرائيلي طلبù للرضا الاميركي.
بالمقابل كان الأنبا شنوده مرجعù دينيù لفئة من المصريين فحسب، لكن شجاعته في الدفاع عن الموقف المبدئي، حولته الى مشروع زعيم وطني داخل مصر، بل سرعان ما احاطته بهالة من التقدير على الصعيد العربي، لينتهي الامر بالمسلمين الى مطالبة العديد من مراجعهم الدينية بأن يتشبهوا ببابا القبط في مصر، وان ينهجوا نهجه فلا يظلوا مجرد مفتين لتزيين خطأ السلطان ولتحريم المعارضة وتوقيع الحد على المعارضين ورافضي الخطأ.
ولقد طرحت مواقف الأنبا شنودة جملة من المسائل الفكرية والسياسية، خصوصù في ظل صعود ما يسمى بالتيارات المتطرفة او الاصولية ممن تحمل راية الدين وتقول بأنه وحده الحل.
طبعù لم يكن هذا الكاهن القبطي الجليل وحيدù في موقفه من تحريم التعامل او الزام الاقباط بالامتناع عن زيارة القدس طالما ظلت تحت الاحتلال الاسرائيلي، ولا شك في ان العديد من رجال الدين المسلمين والمسيحيين المؤمنين حقù بأرضهم كما بربهم قد اتخذوا في السر او العلن مواقف مماثلة او ربما اشد،
لكن شجاعة الأنبا شنودة جعلته يتخطى المتطرفين معù: الحاكم المندفع في طريق الخطأ الى حدود تكاد تخرجه من دينه، و»الأصولي« المتطرف والمحدود الأفق الذي كاد بذريعة تشدده في تطبيق احكام الدين (وفق تفسيره) يُخرج الناس من دنياهم وكأنهم يتركونها لاسرائيل!!
وكان أهم ما في موقف الأنبا شنوده انه أثبت قوة الموقف المبدئي وقدرته كسلاح سياسي فعال، بغير ان يتورط في المماحكات التقليدية حول العلاقة بين الدين والسياسة: ليس الحاكم ظل الله على الارض، والرأي رأي الناس، والدين في الناس وللناس، والناس بأرضهم وليس من دون أرضهم، والجنة لا تغني الناس عن الارض، كما لا يغنيهم الحاكم عن الوطن ولا يغنيهم رجل الدين عن الدين نفسه.
في مواجهة الحاكم »المسلم« لم يتصرف الأنبا شنوده كرجل دين »مسيحي«، بل جاء رده وكأنه ضمير مصر والمصريين. لم يستنفر طائفته للخروج من الوطن او للخروج على الدولة. فهو في الدولة ومنها مهما بلغ اختلافه مع الحاكم. لا يهدمها نكاية بالحاكم. ثم انه في الناس ومنهم، لا يثيرها فتنة في ما بينهم لكي يقنص زعامة رخيصة لمن تسهل استثارة غرائزهم.
ومع ان الأنبا شنوده نادر الظهور على الشاشة الصغيرة، ولا تتزاحم الاذاعات المرئية والمسموعة لنقل خطبته (الجمعة) او عظته (الأحد)، فهو قد استطاع ان يصل بصوته بل بموقفه الى آخر ارجاء الوطن العربي والعالم الاسلامي اضافة الى المسيحيين في مختلف بقاع انتشارهم.
ومؤكد انه قد كشف فأحرج ولعله أخرج العديد من رجال الدين المسلمين (عربا بالأصل أو غير عرب) حين اتخذ الموقف »الطبيعي« من الاحتلال الاسرائيلي كما من الحاكم الظالم،
وقد لا يكون خطأ الافتراض ان شيخ الأزهر او مفتي الديار المصرية في طليعة المحرجين، وكذلك »ترابي« السودان و»ابن باز« السعودية والبطريرك الماروني في لبنان (وبطاركة آخرون) اضافة الى العديد من »الملتحين« الذين يتصدرون قيادة حركات سياسية في مختلف ارجاء الوطن العربي، ويملأون الجو جعجعة ويثيرون الناس ويفرقونهم شيعا حول التوافه والتفاصيل على حساب القضية التي من أجلها كانت الأديان: الناس وحقوقهم.
***
روح مصر، بقبطها ومسلميها، في لبنان الآن..
فالأنبا شنوده قبس من روح مصر، بكل اصالتها، بكل دورها الحضاري العظيم، بكل تاريخها، بكل اهليتها لأن تكون »القائد والرائد« حين يتعرف حاكمها الى طريق الصح وحين يجرؤ على اتخاذ القرار الصح وبالتوقيت الصح.
وشكرا للأخوة الأرمن أنهم منحوا سائر اخوتهم اللبنانيين فرحة يتيمة في زمن البؤس ومكنوهم من ان يشدوا بأيديهم على يدي هذا الكاهن الجليل الذي يختبئ في داخله الفلاح المصري الفصيح جنبا الى جنب مع عيسى المسيح ومجمل تراث الاسلام في ارض الكنانة.