هل يمكن الحديث عن »عبقرية المصادفات«، وقد تزامنت، أمس، مجموعة من الأحداث المنفصلة بمكانها المتصلة بدلالاتها وإيحاءاتها، وبينها بالتحديد:
1 فأمس، الأحد، كان الثاني من تشرين الثاني، وهو تاريخ محفور في الذاكرة العربية لا يمكن أن يُنسى، لأن »وعد بلفور« الذي »أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق« قبل ست وثمانين سنة، ليصير من بعد »أرض« المشروع السياسي الصهيونية بإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين التي كانت قد دخلت تحت الاحتلال البريطاني بعد هزيمة السلطنة العثمانية، وضياع »الثورة العربية الكبرى« عن أهدافها الأصلية لأسباب شتى أبرزها تهالك قيادتها الهاشمية، ونقص الوعي العربي العام، وضياع المقاومة الوطنية بين »مساومة« الاحتلال البريطاني وسوء تقديرها للقدرات الإسرائيلية السياسية والمالية والعسكرية على وجه الخصوص.
و»الأرض« الفلسطينية ما تزال مستعصية على الخضوع لمحتلها الإسرائيلي، يقاوم أهلها بلحومهم، من داخل عزلتهم الموحشة وانشغال أخوانهم بهمومهم الخاصة الثقيلة التي لم يخفف منها أن أكثريتهم الساحقة قد فكت الارتباط مع فلسطين من دون أن تحقق مبتغاها في »السلام« برغم كل التنازلات التي قدمتها للاحتلال الإسرائيلي.
بالمقابل فإن إسرائيل، دولة و»مجتمعاً«، تعيش أزمة جدية تكاد تخلخل كيانها، في ظل انعكاس الاحتلال على »أمنها الوطني«: ترتفع فيها الأصوات المنادية بأن »التاريخ لن يغفر لمن يختار إرسال أبنائه إلى معركة لا حاجة لها«، ويستذكر الإسرائيليون قائدهم إلى »السلام« الذي قتلوه، إسحق رابين، بشيء من الحرقة، في حين يتعرض اقتصادها لاختناقات حادة بين ما يعبّر عن خطورتها الإضراب الشامل الذي سيُعلن اليوم، في حين يقصد رئيس حكومتها السفاح شارون موسكو ليرسخ معها تحالفاً متيناً، باعتبارها »الشريك الثاني« لإسرائيل، بعد الولايات المتحدة، فهي »منبع« البشر بقدر ما هي واشنطن مصدر السلاح والمال والحماية الدائمة من المخاطر المحتملة، بغض النظر عن جديتها.
لا الفلسطينيون أخذهم الضعف إلى الاستسلام، بل إن جبروت الاحتلال وطغيانه والمذبحة المنظمة المفتوحة ضدهم قد استفزت فيهم، مع الوطنية، إرادة الحياة، فاندفعوا يقاومونه بالسلاح الذي لا ينفد: دمائهم..
ولا الحكم العنصري المتفاخر بقوة سلاحه وعظيم نفوذه السياسي المصفح بالتأييد الأميركي المطلق يقبل بأن يعترف بفشل القوة في قهر إرادة هذا الشعب العظيم، والتسليم بالحد الأدنى من الأدنى من حقوقه في »بعض« أرضه.
وهكذا فإن »الحرب« التي باشرها اليهود الآتون من أوروبا تحت الراية الصهيونية لإقامة دولة إسرائيل فوق أرض فلسطين، وعلى حساب أهلها، ما تزال مستمرة منذ ست وثمانين سنة على »الوعد« وبعد خمس وخمسين سنة من النجاح في إقامة هذه الدولة، بالقوة عسكرية وسياسية على بعض أرض فلسطين، قبل أن تحتلها جميعاً بعد الهزيمة العربية 1967.
2 وأمس، الأحد، الثاني من تشرين الثاني، شهدت سماء بغداد إسقاط حوامة عسكرية للاحتلال الأميركي ومقتل أو جرح العشرات من جنوده، مما يشكل ارتقاءً نوعياً في أسلوب مقاومة هذا الاحتلال ويرفع كلفته على المحتل، مما يرفع مستوى الاعتراض داخل المجتمع الأميركي على التورط في بلاد بعيدة جداً بغير مبرر مقنع، ويهز الثقة بالرئيس الذي يرى نفسه »رسولاً« يملك تفويضاً إلهياً بتصدير »الحرية مقابل النفط« إلى الشعوب المقهورة بطغيان… غيره!
وبرغم التحذيرات التي تحاول تنبيه الرئيس الأميركي إلى أن »التوابيت الآتية من العراق قد تحفر قبره السياسي«، لأن موسم الانتخابات يتربص به عند الزاوية، فإن الرئيس »الذي له اتصال دائم مع الله«، يكابر ويندفع نحو بحر الدم… بينما وزير حربيته رامسفيلد يعترف بأن »جيوشه لم تحقق بعد أهدافاً هامة وملموسة في الصراع ضد الإرهاب، والصراع في العراق سيكون ضارياً وطويلاً ومرهقاً«، ثم يؤكد: »لكن ذلك كله لن يثبط عزيمتنا، والقضاء على الإرهاب لن يكون بالأمر السهل«.
في لحظات يختلط أمر الكلام على سامعيه، فيتساءلون ما إذا كان قائله هو المحتل الأميركي أم المحتل الإسرائيلي… وبحسب المحلل السياسي لصحيفة »معاريف« الإسرائيلية فإنه »كلما ضعف الأميركيون كلما تعززت قوة أعدائهم الذين هم أعداء لنا أيضاً… وتطابق المصالح بين إسرائيل وأميركا يستولد المزيد من الكراهية للاثنتين في العالم الإسلامي برمته«.
أما في صحيفة »هآرتس« الإسرائيلية فيكتب محللها السياسي: إن المقاومة ضد الأميركيين في العراق بدلت الروح الواهنة فأمدت الفلسطينيين بشعور الصحوة والأمل. هنا وهناك أيضاً يوجد احتلال تتوجب محاربته وطرده. كل ضربة للأميركيين هي ضربة لحليفتهم إسرائيل. كان العراقيون يتعلمون منهم، الآن هم يتعلمون من العراقيين«.
3 وأمس أيضاً، الأحد في الثاني من تشرين
الثاني، انتهى اجتماع الدول السبع المجاورة للعراق، هو الرابع منذ انفجار الحرب التي أدت إلى احتلاله، ببيان يجسد التوافق على الممكن من السياسات والمواقف، في مواجهة الوضع الذي يزداد تعقيداً، نتيجة التعنت الاميركي والاصرار على التفرد باعادة رسم خريطة الشرق الاوسط برمتها بما يتناسب مع مصالحها، مستخدمة مع الجميع دولا قبل الافراد سياسة الارهاب والتهويل عليها بمصير صدام حسين، ان هي اعترضت او رفضت الاحتلال واجراءاته او تورطت بتشجيع اطراف »المقاومة« التي ينكرها الجميع، اليوم، حتى من تبهجه او لا تزعجه عملياتها الناجحة (كعملية الامس) ربما بسبب غموض هويتها وسهولة نسبتها الى مرفوضَين هما: صدام حسين واسامة بن لادن… فليس في سجلّ اي منهما ما يشفع باعتباره »رمزاً للمقاومة الوطنية« في اي مكان.
وبرغم اعتراف الاجتماع السباعي »بمجلس الحكم الانتقالي ودعم جهوده لتحمل مسؤولياته الانتقالية«، فقد صدرت عن بعض اطراف هذا المجلس تصريحات ومواقف تدل على ثقة زائدة بالنفس، واطمئنان مبالغ به الى صدق الاحتلال في تعهده باستنبات الديموقراطية في ارض الرافدين وفي بناء مجتمع الرفاه بمليارات من الدولارات »يتبرع« بها دافعو الضرائب من الاميركيين!
لقد تعامل بعض اطراف مجلس الحكم الانتقالي وحكومته الانتقالية وكأن المجتمعين في دمشق يحرّضون على »المقاومة« او يرعونها، تمهيداً لشن الحرب على الاحتلال، في حين ان الدول السبع في موقف دفاعي، تخاف على نفسها من الفوضى المحتمل انتشارها في العراق ربما بأكثر مما تخاف من جيش الاحتلال الاميركي…
ومع ان الاحتلال ليس ضمانة لوحدة العراق، بل ربما كانت مصلحته في تقسيمه، فإن تصريحات بعض اطراف مجلس الحكم الانتقالي تتضمن نبرة استقواء غير مطمئنة، وتتخذ موقفاً هجومياً ضد »الجيران«، وتكاد تبرئ العراقيين من »تهمة« المقاومة، في الحاضر وفي المستقبل، مع ان الدول السبع المعنية إنما اجتمعت لتصد »التهديد الذي تمثله أية مجموعات مسلحة في العراق للدول المجاورة«، وخلصت الى دعوة »السلطات العراقية المسؤولة« للتعاون معها لإزالة الخطر على امنها! مع ذلك لن يُطمئن هذا البيان المعتدل بأكثر من المتوقع قلق الادارة الاميركية، التي تفترض كما حكومة شارون الاسرائيلية انها قادرة بالقوة وحدها على تطويع الدول والشعوب.
والبيان المعتدل لن يهدئ مخاوف وزير خارجية جورج بوش الذي اعلن مؤخراً، بصراحة مطلقة: لقد أخطأنا في التخطيط، والوضع في العراق خطير!
وأوضح ان الدول السبع ومعظمها تُحتسب في عداد الاصدقاء المقربين للادارة الاميركية لم تستطع ان تخفي قلقها المزدوج المصدر: فلا الاحتلال الاميركي الذي سقطت ذرائعه المعلنة حريص على طمأنتها، بل هو يضعها في قائمة المشبوهين، بل ويشن حرباً بالمقاطعة والمحاسبة والحصار على بعضها (سوريا وايران)، ولا »مجلس الحكم الانتقالي« في موقع السلطة صاحبة القرار، بغض النظر عن »شرعيته« وسلامة تمثيله لهذا الشعب المهدد في وحدته وفي مستقبله فوق ارضه.
لا يمكن ان يكون الاحتلال العسكري مصدراً لاطئمنان اي شعب، وضمانة لحقوقه في وطنه، فضلا عن الديموقراطية والعدالة والرفاه.
الاحتلال هو الاحتلال، في فلسطين كما في العراق.
والعجز عن مقاومته وإجلائه بالقوة ليس بالضرورة استسلاماً ولا يمكن ان يكون دائماً.
والاحتلال يخلق مقاومته، ولو عز النصير…
وهذه أبرز دلالة على المفارقات التي تجمّعت في الثاني من تشرين الثاني 2003: من وعد بلفور الاسرائيلي، الى وعد جورج بوش الفلسطيني وصولا الى وعد الاحتلال الاميركي بالديموقرطية في العراق بقوة عسكره.. المذعور!
والصورة الفلسطينية اليوم هي الصورة العراقية غداً.