طلال سلمان

مشينا على الرصيف المزدحم بك..

رحلنا منك إليك. ليس لنا زمن خارجك.
تجولنا داخل فيئك، نتتبع أثرك بعطرك.
ملأت علينا صورتك الشارع الطويل، وأطل وجهك عبر إشارات النور، يوجه مسيرتنا ويأخذنا الى أماكنك الحميمة.
خلف السور انتثرت خضرة العينين حدائق بأشجار باسقة ومروجاً تكرج فوقها الشحارير والسناجب بينما تنتصب فوق القباب القوطية أبراج للهديل.
كنا قد باشرنا الطواف من صومعتك التي اتسعت بالحب فصارت مدينة لكل المغتالة أوطانهم ممن تضيق بهم منافيهم.
شدتنا البوابة السوداء بآثار كفيك الصغيرتين المزمومتين داخل القفازين على حديدها المجرح بأظافر الثلج القطبي.
رقينا الدرجات القليلة وابتسمنا للصورة، فإذا ابتسامتك أوسع بدوي بهجتها الخافتة.
لم تفتحي لنا الباب.
وقفنا كالعادة خارجك، بينما تمخرين منا الصدور وماء العيون.
لطالما أوقفتنا خارج بوابة الألم.
ها نحن الآن نتجرع مرارة العجز.
كان الصمت جميلاً كصوتك.
لم يكن يسمع غير حفيف أوراق الشجر وخفقات أجنحة الطير المتثاقل أنفاس نومه داخل أعشاشه المتوارثة في الأشجار العريقة.
وكان اسمك على كل ورقة من أوراق تلك الغابة التي تمتد عبر النهر الى البعيد البعيد لتفرش لعينيك المدى مستعيرة منهما شيئاً من الخضرة اللازوردية.
أما شهادتك المهجورة فقد غدت الآن تعويذة يحملها كل أولئك الذين تعلّموا منك الحب المر.
لم يكن على الشرفة الخلفية إلا نصف قمر، وأصداء ضحكات وأسرار مودعة في ثنايا نوره الناعس.
كدنا نحسده على »المنفى« والأصدقاء فيه،
ربما لأننا تشهينا السفر حين لم نقدر عليه،
ربما لأننا حمنا وطفنا وسعينا من خلف أسوار كعبات الحلم ثم عجزنا عن الدخول الى حرمها،
ربما لأن عيوننا كان قد شغفها لون الصخور الجرداء وكانت مشوقة إلى رواء الخضرة وإلى أن تكتحل بمسرى الماء وهو ينطلق دافقاً عفياً في المجرى العريض نظيفاً وكأنه استحم لتوّه ولما يجد منشفة،
ربما لأننا عشقنا الكتب التي لم نستطع أن نشتريها فبقيت أسرارها فيها مغلقة علينا، وبقينا نطرق باب المعرفة فلا يفتح لنا، فنتسلل لاختلاسها في غفلة من حراسها الذين يبيعونها بأثمان لا نملك أن ندفعها حتى لو بعنا أرضنا الشحيحة المطر والخير والذهب القليل لنسائنا مشققات الأقدام من السعي الى توفير حطب الخبز والموقد.
انعطفنا نحو الشارع العريض، وهناك تقدمتنا وأخذت تعرفيننا على الأساتذة ومن اخترت من زملائك أصدقاء لك..
دخلنا الى مقهاك، وجلسنا الى طاولتك التي كانت من شتات الأوطان الممزقة والمرمية الى العدو والمغتربات والمنافي ومعظمها في الداخل.
قرأنا كتابات جميلة لشعراء الوجع، واستمتعنا بروايات خطها مبدعون.
قصدنا، من ثم، مطعمك الأفغاني، وشربنا قهوة فوق الرصيف المزدحم بك.
ظللنا نمشي في قلب الليل حتى قطعناه الى ما قبل الفجر بقليل.
كنا نربح في الزمان ولا نخسر.
وكانت الساعة تركض خلفنا بينما نحن مشغولون باستعادة كل الدقائق والثواني التي اكتسبت بعض لونك.
قال دليلنا: لا أظنكم بحاجة إليَّ. ان الأمكنة تحفظ منها عطرها وصخبها وتفجراتها الغاضبة كلما دوت فاجعة جديدة في بعض جنبات الوطن.
حين رق الهواء وأطل الفجر ندياً، حنوت علينا فأخذتنا الى النوم، قائلة:
الرحلة التالية سنكون معاً.
وعدنا إليك لنبدأ الإعداد لرحلة الوعد الجديد.

 

عناية جابر »تغني« ما تأخرت في نطقه..

كطفل تأخر نطقه أو تعثر في كلماته الأولى ثم، فجأة، دهمه الإحساس بأنه قد امتلك اللغة فانطلق يتكلم بلا توقف، وإن ظلت جمله قصيرة، كثيفة المعاني، غنية بالايماءات الى ما لم يقله من قبل: هكذا انفجرت عناية جابر تقول متأخرة عن موعدها شعراً سابقاً لموعده.
مع الشعر الحديث تكفي الجملة الواحدة لتكون قصيدة.
وهكذا في أجزاء من 117 صفحة معظمها أبيض أطلقت عناية جابر 59 قصيدة، في حين تتشكل القصيدة الأخيرة والأفخم من مجمل العناوين:
لهو، سر وحيد، لعب، هدوء، نشيد، وحدة، قبلة، خيالات، باب موصد، أموري الحمقاء، صدع، حكاية، رغبة، ضوء، حنان، وهم، سحر، شغف، شهوة، تأنيب، زرقة أكثر، سر، مزحة، أكثر من أي وقت، عندما لا أسهر.. أنام، حطام، اكتشافاتنا، نوعية الهواء، نشوة، لمس، ضلوع، لغة، من كثرة ما أحب، تسهيد الفوضى، عشيات، ثمار الوحدة، صورة، نشيد، أفرد يداً بيضاء، يحدث للهواء، عصفوري اللذيذ، ارتجاف، النهار المستعمل، الشمس مقبلة، قطيفة الفجر، أمور بسيطة، وحدي تقريبا، أماكن أبعد، توحد، ربع الساعة الطيب، نهب صغير، لا أستعجل شيئاً، ارتباك، ثبات، تعب، و… حب.
مع الشعر الحديث تستمد اللغة صحتها من اكتمال المراد قوله أكثر مما يجيئها الاكتمال من قواعد الصرف والنحو وأوزان الخليل بن أحمد.
الحزن الأزرق المخضوضر في عيني عناية، وقد تحسبهما دائماً مغشاتين بالدمع وبدخان سيكاراتها التي لا تنطفئ، لا يقرأ إلا من خلال شعرها:
»أحدهم مزق قلبي
»وجعلني أتوق إلى رثاثة الضجر«
ما لا تستطيع أو لا تريد البوح به بالسرد المرسل، تقوله عناية شعرا، وما يصعب حتى بالشعر قوله تغنيه، ولكي تقرأها عليك أن تسمعها.
فعلاقة عناية بالموسيقى هي الأساس، ولعله من داخل هذه العلاقة نشأت صلتها الحميمة بالشعر بما هو لغة الحب:
»هي مهلة القلب كي أسوي شكلك
وألقن الورد درسه الهين،
لا أستعجل شيئاً، كمن تعود سعالاً مديداً/ وحيد الثغر«
هي »أمور بسيطة« تلك التي تهز عناية وينقر فؤادها حروفها بأنامله، وينفخها بفمه الرقيق فيدفعها لأن تكتب ما تكتب، »لكن الفضاء باهظ/ والعودة الى البيت كل ليلة/ قاسية/ وصدفة ثابتة«.
ربما لهذا تستطيع عناية أن تكلم السماء بجدية، خصوصا ان مدخرها المعتم يتداعى بدراً، وأن شياطينها المدللة تسرج خيولها وتتقدم في جوف الليل بتهور، وأن النجمة التي تشبهها ستبدأ.
»أمور بسيطة« تشغل عناية جابر فتذروها على النهار:
»ورق أخضر حط في الحديقة،
أعلن موته وتمدد في ظله/ وحيداً تماماً/ تكوّم بلا نسمة/ خلاباً في قدره
وأنا صبي صغير/ خلف نافذتي
لست عميقاً بما يكفي، ولا أحسن الأنين«..
مترفة في حبها عناية جابر. إنها قادرة على إعادة تشكيله كل لحظة:
»كأنني في الميل الشديد/ أخوض في الحب/ في اللوعة الأغلى/ مترفة كعذاب« تدلل حبها، ويدللها حبها حتى يأخذها إلى الشعر:
»هذه الواحدة صباحاً/ وقت غريب على أنفي/ ولست أتعرفه
وبي نزوع إلى البيت
فلست أحب أن أرى سافرة الرقة/ ورطبة/ في الغرف البعيدة«.
… على أن مَن يقرأ ديوان عناية جابر الجديد »أمور بسيطة« سيراها سافرة الرقة، وإن كانت ما تزال تتوق الى رثاثة الضجر.

 

الجنسية والوطن..

رأيتهم في المطارات والموانئ.
رأيت أولئك الذين يفرون من أوطانهم وأهلهم، ويحمل كل ذاته في حقيبته ويحاول أن ينسى ليعيش.
فأما المغترب القديم فلم يتبق عنده غير حنينه الكسيح وغير ذكرياته القديمة المستعادة لكي تمنحه شيئاً من الأمل والوعد الجديد، بينما هو غارق في بلادة تقاعده لا ينتظر غير النسيان والموت.
أما الذي اغترب حديثاً فيصفعك منطقه الصريح الى حد الفجور:
نعم الجنسية الجديدة أهم من الوطن!
هي أهم حتى من أمي وأبي والجدود والأرض التي لا تطعم أهلها.
ماذا يعني الوطن؟!
أن تلغى أنت كإنسان بحجة المواجهة التي لا تتم لأننا لا نملك مقوّماتها؟
أضاعوا الأرض وأضاعوا الإنسان، فماذا تبقى لنا؟!
الأم، الأب، الجدود، الذكريات، الحنين، الارتباط بالأرض، بإمكان هؤلاء جميعاً أن ينتظروا. سيكون لنا معهم شأن آخر ذات يوم. أما الجنسية الجديدة، المذهبة الأحلام، فإن ضاعت فإنها لن تعود.
بعض الناس جنسياتهم أرخص من أرغفتهم.

 

تهويمات مسافر

} كنتِ خلف الوداع، ولا محطات للقاء.
نتوجه عبر الهنيهة في القطارين المتقابلين في محطة العبور الى الوجهتين المتعاكستين.
مع ذلك أحسك خلفي، وأنك تختبئين كلما التفت الى الوراء لتقديمي زمن اللقاء الموعود.
} قام القطار وبقي الحب في القاعة الحمراء كطفل نسيه أهله واستكبر أن يراه أحد باكياً أو خائفاً أو ضائعاً فلبس وجهاً من الدمع المحجر وادعى انه في انتظار القطار الذي لن يأتي.
} يأخذني إليك السهر، يعيدني إليك النوم.
تمخر الطائرة عبابك، ويجري القطار في المجرى الضيق بين العينين، تسبقين الى المحطة التالية وكنت قد ودعتك في المطار الأخير، ثم اكتشف انني إنما أسافر فيك منك إليك.
} أتركك خلفي فإذا أمامي على صورتك.
ينظر إلي حرس المطارات بحسد حين يطالعهم وجهك على صفحات جوازي.
تبتسمين لهم وتغمزين فيتواطأون على تهريبك إليَّ وتهريبي إليك ثم يبثون عيونهم خلفي ليطمئنوا إلى أننا عبرنا الحدود لنقيم وطن الحب.
تلوّح المناديل لغيري، وأرد التحية.
أريد أن ألقي السلام على الناس جميعاً لعلي أحظى بنصيبي منه.

 

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا حب خارج الشعر. لا شعر خارج الحب. لم يكتب الشعر من لم يحب، وأعظم الشعراء مَن أحب من طرف واحد!

Exit mobile version