طلال سلمان

مشاهد متحولة لمتفرج ثابت

تتوالى على المسرح اللبناني، هذه الأيام، ثلاثة مشاهد كان يمكن أن تبعث شيئاً من الطمأنينة في النفوس القلقة لولا »عقدة« عدم التصديق التاريخية المعززة بوقائع راهنة تزيد من الشكوك حول جدية العلاج والمعالجين:
1 المشهد الأول يتجسّد في ما سُمِّي »الورقة الإصلاحية« التي توافق عليها الرؤساء الثلاثة بعد سلسلة من المناورات المتبادلة التي لجأ إليها كل منهم لإلصاق المسؤولية عن الوضع المتردي والمنذر بكارثة، بالآخر، وتركه »يقلّع شوكه بيديه« أو يمشي فوق حقل الألغام لعلها تنفجر فيه وحده.
أخيراً اضطر الجميع إلى الإقرار بواقع أنهم على السفينة نفسها المهددة بالغرق بمَن وما عليها فالتفتوا يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه، مقرين باشتراكهم في المسؤولية عما آلت إليه الحال، متعهدين بوقف الهدر وضرب الفساد وإصلاح الادارة وتحسين الجباية والقضاء على المحسوبية وهتك الأستار عن الصفقات المشبوهة والمنتفعين إلخ..
هذا كله جيد، إذا ما اعتمد كنهج فعلي له ضوابطه وله مَن يراقب التنفيذ بدقة ويحاسب على التقصير أو القصور.
وبغض النظر عن الأسئلة المشككة في الرؤساء ونواياهم، أو التي تذكر بأنهم هم هم المتسبّبون في ما نحن فيه فكيف يكون سبب المشكلة هو مصدر الحل، فإن للقلق ما يبرّره ما دامت الورقة الإصلاحية أوحت وتوحي بأننا بصدد إعادة بناء الدولة أو إعادة هيكلتها (حكومة وإدارات) وهذا متعذر، أما الممكن فهو إحالة الأمر كله إلى »العهد المقبل« وهذا غير عملي إضافة إلى أنه غير منصف، ولا سيما أن العهد المسمى مقبلاً يكاد يكون نسخة طبق الأصل عن القائم الآن.
مع ذلك فمجرد الاعتراف بالمشكلة وخطورتها هو نصف الحل، كما تقول الأمثال، لكن الناس يتخوّفون من المبالغات التي ترافق توصيفات هذا الحل العتيد والتي تجعله عجائبياً، وبالتالي مستحيلاً، كما يفزعهم هذا الاستخفاف بالأرقام الذي يهوّن من شأن مليارات الدولارات في بلد يشكو من اعتلال ليرته وتناقص نسبة النمو وتفاقم خدمة الدين العام إلخ..
2 المشهد الثاني يتمثل في تحرك القضاء ووضع يده على ما سمي »فضيحة صفقة استئجار الطائرات لشركة طيران الشرق الأوسط«، واستدعاء هذا الرهط من المسؤولين الكبار ليُدلوا بمعلوماتهم حول الصفقة وملابساتها.
إن المواطن ما يزال يثق بالقضاء، برغم التجارب المرَّة التي خيَّبت آماله من قبل حين تبدّى وكأن الضغوط السياسية، بتوظيفها الحساسيات الطائفية والمذهبية لمصلحتها، أقوى من القضاء وقادرة على شلّه وتعطيل دوره الحاسم في توقيع القصاص العادل على المرتكب أو المخالف مهما علا كعبه أو كعب حاميه.
ومن قبل سبق لهذا المواطن ان »تفرّج« على منظر سَوْق بعض المسؤولين الإداريين أو العسكريين للاستجواب (فضيحة الطوابع سليمان/ الموصللي ثم فضيحة مناضلي الجيش الأحمر الياباني)ثم طُويَ الملف أو الأجزاء الأساسية والخطيرة منه، ولم يتبقّ ما يبت به القضاء غير بعض التفاصيل والمتهمين الثانويين أو الوسطاء المحدودي الدور والذين يتخذ منهم المتورّطون الكبار دروعاً بشرية يفتدون بهم أنفسهم عند الحاجة.
وعلى صعيد علاقة الصحافة بالقضاء فلقد كنا نتمنى ألا تصدر عن مدّعي عام التمييز الرئيس عدنان عضوم مثل تلك الملاحظة القاسية حول دور الصحافيين في سعيهم المضني لمعرفة الحقيقة التي يعرف »الكبار« كيف يطمسونها أو يفتّتونها إلى جزئيات يتحول معها المتهمون إلى أشباح، فلا تجد المحكمة مَن تحاكمه في قضية تمّ مسخها حتى لم تعد تستحق عناء التحقيق فيها.
إن الحقيقة محجوبة ومخفية خلف أستار من الحديد الصلب.
وغالباً ما تُرمى بعض الوقائع في السوق »لحرق« أسماء مسؤولين معينين بقصد التغطية على أسماء المسؤولين الأصليين، أو لتزييف طبيعة القضية.
تبدأ الفضيحة خطيرة تمس أمن البلاد والعباد، وتهدد الاقتصاد الوطني، ثم تنتهي بجنحة، ويخرج المتهمون بشهادة براءة كانت تنقصهم من قبل.
والصحافة تجتهد أن تكون في خدمة الحقيقة والعدالة، وتفترض أنها إنما تساعد القضاء، وهي قد لا تنجح دائماً، لكنها مع الأسف وفي غياب (أو تغييب) مؤسسات الرقابة عن دورها الأصلي (مجلس النواب، هيئات الرقابة الإدارية) تصبح وحدها في الواجهة وتحمَّل ما لا طاقة لها به، خصوصا أن مصادرها وهي سياسية بمجملها غير نزيهة أو غير مبرأة من الغرض.
المشهد الثالث كاريكاتوري إلى حد ما وهو يتصل بالانتخابات البلدية!
المطلب قديم وقد انعقد عليه إجماع عزَّ نظيره على المستوى الشعبي، يقابله إجماع مألوف على المستوى الرسمي إذ تضامن الرؤساء والوزراء والنواب والكبراء ممن يخافون من الناس ضده.
وبعد ضغوط متعددة المصادر، وبعد شعور بالاحتياج إلى ما ينفس الاحتقان الشعبي وبعد مزايدات ومناقصات انقلبت على أصحابها، اتفق »الكبار« على الإفراج عن مبدأ إعداد مشروع قانون للانتخابات البلدية.
في المسوّدة الأولى طار ربع المطلب، وفي المسودة الثانية طار الربع الثاني، وها هو مجلس النواب يكاد يذهب بما تبقى من المطلب: أي الانتخابات!
فأمس أقرّت لجنة الادارة والعدل، بالأكثرية، مبدأ التعيين في: المدن الرئيسية، والمناطق المحتلة أو تلك المتاخمة لها، إضافة الى مناطق التهجير!
وما زال ما تبقى من مشروع القانون مهدداً برصاصة الرحمة، عند إعداده بصيغته النهائية، بحيث قد تسير التظاهرات مطالبة بإلغاء »انتخابات« ستكون مهزلة المهازل، لأنها تستثني سلفاً أكثر من نصف اللبنانيين وتحرمهم من حقهم بالقانون، تاركة لسلطة غير بريئة وغير نزيهة أن تعيّن أنصارها وأزلامها في معظم البلديات.
يبدأ المشهد مثيراً وينتهي مفجعاً.
يبدأ بلمسة تفاؤل وينتهي بخيبة أمل جديدة.
مع ذلك فلنأمل أن يتحقق شيء ما، فواجبنا التفاؤل لكي نواصل الحياة في هذا البلد الفريد في كل شيء حتى في انتخاباته البلدية وإصلاحاته الاقتصادية واختفاء الفضائح أو تقزمها قبل أن تصل إلى باب القضاء وأحكامه الرادعة.
واجبنا أن نتفاءل، وإلا.. خسرنا مقاعدنا كمتفرجين على المشاهد الطريفة والمسلية لو أنها كانت في بلد آخر!

Exit mobile version