هل انحسرت »العاصفة« ببروقها ورعودها المدوية، ولا مطر، وجاء أوان الحوار الهادئ والدقيق والمسؤول؟!
هل ذهب زهو »الانتصار« الشكلي المكلف، واستعاد تواضع الواقعية اعتباره، وبات بالإمكان مواجهة الأسئلة الصعبة والتي لا يمكن الهرب منها بنسبتها إلى المماحكات السياسية لمعارضين مفلسين لا يملكون غير المزايدة برنامجاً لوراثة القائم بالأمر؟!
إن الحكومة هي الحكومة وقد استقر في يقين الجميع أنها ثابتة، وأنها باقية مبدئياً إلى نهاية العهد، بعد سنتين، ومبدئياً أيضاً.
صارت الانتخابات، بكل ما حفلت به، من الماضي، وقد تمت تصفية الحساب نيابياً، في جلسة الثقة، و»شعبياً« في التظاهرة المكسورة في الشارع المصادَر يوم الخميس الماضي… لكن »الأزمة« لم تُحل لا في المجلس الذي ثرثر نصف نوابه طويلاً ولم يوفر بعضهم إلا مقدمات خجولة لمشاريع حلول تكتسب مصداقيتها من تاريخ مطلقيها (الرئيس الحص، نسيب لحود..)، ولا في الشارع الذي لم يكن يوماً منبتاً للحلول بل كان باستمرار معرّضاً للفشل في إنتاجها.
وتبدى واضحاً أن ثمة فجوة كبيرة بين المجلس، بمن فيه، والشارع، بالذين حاولوا إشغاله، ليس من السهل جَسرَها بحيث تتشكّل من مجموع الذين تكلموا وتظاهروا »جبهة سياسية« تزعم لنفسها القدرة على اجتراح الحل المرتجى،
بقيت السلطة هي المطالَبَة بالحل، يتوجه إليها المعترض والناقد كما المؤيد والداعم، وقد أقر الجميع بمرجعيتها ومن ثم بمسؤوليتها.
صار من الضروري، إذن، إقناع السلطة بتبديل في خطابها السياسي، وهو يتراوح بين التبجح بقدرات خرافية، وبين التنصل من المسؤولية عن طريق اتهام الشعب بالكسل والتقصير في الانتاج والهرب من أداء واجبه الوطني،
كما صار من الضروري أن يتخلى بعض أطراف المعارضة عن خطابهم السياسي القائم على تصيّد أخطاء السلطة، وما أكثرها، ورصد سقطاتها أو قصورها في المعالجة، وما أسهل ذلك، ثم الانتقال إلى التهديد بالنقمة الشعبية والدعوة إلى ثورة لن تقوم حتى لو أخلت قوى الأمن الشارع لمن يرغب في تحويله إلى »هايد بارك«.
فلا السلطة تملك حلولاً سحرية ولا هي قادرة وحدها على اجتراح المعجزات التي تدعي القدرة على إنجازها وبسرعة قياسية،
ولا المعارضات المختلفة، النيابية منها والحزبية والنقابية، ناهيك بمعارضات الخارج، تمتلك مشروعاً واضحاً لا للحل ولا للحكم من موقع البديل الأكثر أهلية وقدرة على استمطار السماء ذهباً ودولارات، كهبات وصدقات ومساعدات لوجه الله وليس كقروض.
إن رئيس الحكومة يتبرّع بأن يحمِّل نفسه المسؤولية عن كل شيء، مفترضاً أنه على كل شيء قدير، ولعله يقدِّر أن ذلك هو واجب الحاكم ومسؤوليته.
هو، بشخصه، الاستقرار المالي، وبالتالي ركيزة النهوض الاقتصادي، ومن ثم فهو المسؤول عن حل الأزمة الاجتماعية التي لا يحب أن يعترف بمدى خطورتها على الاقتصاد عموماً وعلى الاستقرار النقدي بالتبعية.
ولأنه يحصر مسؤوليات الحكم بشخصه فقد بات المطالَب بحل جميع مشكلات الماضي وإشكالات الحاضر والتطلعات إلى مستقبل أفضل.
ربما لهذا يتخذ طرحه نبرة شخصية، فإذا ما احتدم الجدل صار أي معارض أو معترض أو مناقش خصماً شخصياً، وضاع الموضوع في ثنايا الخصومة (أو نفاق الموالاة).
وبالتأكيد فإن الأطراف الآخرين في السلطة يستغلون هذا الضعف في التكوين السياسي لرفيق الحريري ويتركونه، في الغالب الأعم، وحيداً في مواجهة المطالب المتعددة والمتباينة، ويلبسون لبوس الناصح أو ربما تطرفوا فاتخذوا موقع الناقد، وفي حالات مشهودة اتخذوا موقف المحرّض، ودائماً ساعدوه على الاعتقاد بأن المعارضة تستهدفه شخصياً وبالذات، مدغدغين في نفسه الشعور بالتميز والفرادة.
ولفترة طويلة نجح هؤلاء في تصوير رفيق الحريري وكأنه »مجلس الوزراء مجتمعاً«، طامسين أنهم يقاسمونه الحقائب على حد السكين، كما نجحوا في تقديمه وكأنه خصم المجلس النيابي والنظام البرلماني الديموقراطي ليظهروا أنفسهم وكأنهم حماته الميامين.
وبغض النظر عن مدى نجاح هذه المناورات أو فشلها، فإن الناس المسحوقين بضغط التكاليف الباهظة للعيش في هذه البلاد »الغالية« لا يهتمون إلا بالنتائج الملموسة للسياسة اليومية وللقرارات التي تصدر عن الحكومة وتتحمل وحدها المسؤولية عن نجاحها أو فشلها.
إن رفيق الحريري يكاد يكون، الآن، المسؤول الوحيد المطالَب بحساب مفتوح عن الحكم بمختلف مستوياته وتبعاته ومؤسساته: الوزارات والمجالس والصناديق، الإدارة والاصلاح وتطهيرها من الفاسدين، الصفقات وفضائح الاختلاسات وجرائم المافيات التي تمتد وتتشعب من الطوابع إلى النفايات والكسارات والتلزيمات بالتراضي، انتهاء بمسألة الإعلام المرئي والمسموع ومجافاة احتكاره لمبدأ حرية التعبير والديموقراطية عموماً.
إن رئيس الجمهورية يقول ما يفترض إنه العلاج، ولكنه يضع كلامه دائماً في خانة المقترحات: إن أُخذ بها كان به، وإلا فإنه يستطيع أن ينفض طوقه وهو يقول »اللهم اشهد، إني قد بلّغت«…
والمجلس النيابي، برئيسه ونوابه، يجد لنفسه العذر بالقول: لقد حذرنا ونبّهنا وطالبنا وألححنا، لكنهم لم يسمعوا، أو لم يريدوا أن يسمعوا… ولأننا لا نريد أن نتسبّب في أزمة حكم فلقد اخترنا أن نصمت تاركين المسؤول يتحمّل مسؤولياته!
ما الحل، إذن؟!
الحل أن يصارح رفيق الحريري الناس بحقيقة الأوضاع في بلادهم الفقيرة، وأن يحمّلهم المسؤولية عن النهوض بها فعلاً لا قولاً.
الحل أن يطلب ويباشر شد الحزام فعلاً لا قولاً،
ففي بلاد محدودة الموارد لا بأس من تحديد الاستيراد وتقييده حتى لا يذهب بمعظم مواردها،
إنهم يعايروننا كل يوم بأن في لبنان مليوناً وأربعماية ألف سيارة لشعب لا يزيد تعداده عن ثلاثة ملايين إلا قليلاً، فلماذا يظل الباب مفتوحاً لاستيراد السيارات، قديمها والجديد، الفخم والمتوسط؟!
لماذا ينفق الحكم كل هذه المبالغ الطائلة على رعاية الكثير من مؤسسات القطاع الخاص، لا سيما في مجال التعليم والطبابة والاستشفاء، ولا يخصص هذا المال العام لقطاعات انتاجية ولتأمين المزيد من فرص العمل أمام شباب لبنان، لا سيما المؤهل منهم والذي تتناهبه المهاجر والمغتربات حيث يقيم باحثاً عن رزقه ولو كلّفه الأمر التنازل عن جنسيته إضافة إلى حقه في الإسهام ببناء وطنه؟!
لماذا تبقى فرص العمل موفرة لأصحاب الحظوظ ممن لهم »ظهر« يسندهم، فيهدر المال العام على وظائف وهمية يصل عدد شاغليها إلى بضعة عشر ألفاً، على حساب الأجيال الجديدة المملوءة حماسة والتي لا تجد لها مكاناً في هذه الإدارة الرحبة للمؤقت والمياوم والتي تضيق بالناجح في امتحان جدي والقادم ليعطي جهده وعلمه وشبابه لمهمة نبيلة كبناء وطنه؟!
لا بد من وقفة للمراجعة والنقد الذاتي،
لا بد من طي صفحة وفتح صفحة جديدة: فقد سقط وهم السلام الآتي بسرعة طائرة نفاثة، وأعاد بنيامين نتنياهو التوكيد على طبيعة إسرائيل كقوة غريبة وافدة لتطويع المنطقة واسترهانها والهيمنة عليها وليس للاندماج فيها والإسهام في تقدمها وتعزيز دورها ومكانتها وجدارتها بالعصر..
لا بد من تجاوز المماحكات والمزايدة ومواجهة الصعاب بروح المسؤولية التي تجمع ولا تفرق، وتوحِّد ولا تقسِّم، وتقوي ولا تضعف.
لا بد من شجاعة الاعتراف بصعوبة المهمة وبالحاجة إلى مشاركة الجميع في تحمّل المسؤولية في هذا الظرف الخطير.
والكلمة بعد لرفيق الحريري… المسؤول الكلي.