ها نحن في الوطن العربي عموماً، وفي المشرق العربي خاصة، نستقبل بمرارة العجز والفشل في صياغة مستقبل أفضل لما بعد التخلص من هيمنة السلطان العثماني عبد الحميد وخليفته.. ذلك الذي قاد الانقلاب مع مجموعة من الضباط بقيادة “الثائر” اتاتورك الذي كف يد “جيش الخليفة” وتحديداً جمال باشا السفاح.
ففي 20 آب/أغسطس 1915، كانت بيروت شاهدة على أولى عمليات الإعدام، حيث عمد عساكر العثمانيين على تجميع الأهالي بساحة نصبت بها المشانق، وأعدموا عددا من القوميين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين من أمثال عبد الكريم الخليل ومحمد ومحمود المحمصاني ونور الدين القاضي وسليم أحمد عبد الهادي ومحمد مسلم عابدين. ويوم 5 نيسان/أبريل 1916، تم تنفيذ حكم الإعدام شنقا في حق يوسف الهاني أحد مشاهير الموارنة بلبنان.
ويوم 6 أيار/مايو 1916، كانت دمشق وبيروت على موعد مع يوم دام، حيث شهدت ساحة المرجة بدمشق التي تحولت لاحقا لساحة الشهداء إعدام الأتراك 7 من كبار المثقفين والقوميين العرب، كان من ضمنهم الأمير عمر الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، والكاتب رشدي الشمعة، والشاعر والأديب شفيق بك مؤيد العظم، والشاعر رفيق رزق سلوم والمفكر والصحافي عبد الحميد الزهراوي.
أما بيروت فقد عرفت ساحة البرج، التي سميت لاحقا أيضاً “ساحة الشهداء” وهي القلب النابض لمدينة بيروت، إعدام 14 فردا من النخبة المثقفة، وقد تضمنت القائمة كلا من الكاتب والصحافي عبد الغني العريسي، والمفكر سليم الجزائري، والمؤلف والشاعر عمر حمد، والشاعر والصحافي جورج حداد..
في تلك الفترة، وفي 2 تشرين الثاني 1917 “اعطى من لا يملك وعداً لمن لا يستحق” أي وزير خارجية بريطانيا العظمى اللورد بلفور، آنذاك، للحركة الصهيونية بقيادة هيرتزل “وعداً” بإقامة الكيان الصهيوني فوق ارض فلسطين، متجاوزاً “التحالف” الهش مع الشريف حسين شريف مكة ومخادعته بان يكون ملك الارض العربية جميعاً.
وفي تلك الفترة بالذات تم تقسيم اقطار المشرق العربي بين “المنتصرين” فنالت فرنسا “متصرفية جبل لبنان” بعد ضم الوية البقاع والشمال وبيروت والجنوب (بأهله بياعي البيض، كما وصفهم غبطة البطريرك) إلى متصرفية جبل لبنان ليتم استيلاد الجمهورية اللبنانية على قاعدة نظام طوائفي، حصر منصب رئاسة الجمهورية كحق شرعي بالمسيحيين عموماً والموارنة خاصة، بينما لم يكن لرئاسة الحكومة او رئاسة المجلس النيابي من “امجاد” غير اللقب.
.. كما نالت فرنسا سوريا لتجعلها ثلاث دول (حلب واللاذقية ودمشق) بعدما اقتطعت منها بعض مساحتها، خلف نهر اليرموك، لتكون امارة للشريف عبدالله ابن الشريف حسين ليكون اميراً على شرقي الاردن، في حين حاولت تنصيب شقيقه الامير فيصل ملكا على سوريا، فلما فشل مشروعها تولاه الانكليز فأخذوه لينصبوه ملكا على العراق.
ها هم يحتفلون، في إسرائيل، الآن بنتائج وعد بلفور: لقد اقامت الحركة الصهيونية دولتها التي عزز العرب عموما (بريطانيا واميركا وفرنسا) ومعه روسيا السوفياتية قدراتها وامكاناتها حتى صيروها اقوى من الدول العربية مجتمعة..
هكذا بدأ تاريخ آخر لهذه المنطقة، لا يشبه اية مرحلة من ماضيها، حاضرها معلق بالقدرات غير المحدودة للكيان الاسرائيلي الذي بات ممثلا ووكيلاً للغرب جميعا (ومعه الشرق) في الارض العربية.. والولايات المتحدة الاميركية تتقدم على مهل لوراثة الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية.
..وكان المشروع الاسرائيلي على رأس المهمات التي ستتولاها بريطانيا اساسا، ومعها الولايات المتحدة وروسيا التي سابقتها إلى الاعتراف بالكيان الجديد الذي ادعى الاحقية في فلسطين، على حساب اهلها والامة جميعاً.
بعد ذلك سيكون لهذه الامة التي لاقت الهزيمة في فلسطين تاريخ آخر، مختلف كلية عما سبق.. فلقد اقيم الكيان الاسرائيلي بما يمكنه من تقسيم الوطن العربي إلى مشرق ومغرب، يتعذر التواصل البري بينهما.
كذلك فقد عزز اقامة الكيان الاسرائيلي على ارض فلسطين “الحمىَّ الطائفية” في مجمل اقطار الوطن العربي، ودفعت الطوائف إلى المطالبة بكيانات سياسية لكل منها، تحت وطأة تحريض استعماري معلن.
هكذا تم تقسيم سوريا إلى اربع دول: سنية في دمشق وفي حلب، وعلوية في جبال العلويين ودرزية في جبل الدروز.
ولما فشل هذا المشروع اقتطع بعض الشرق السوري، ما خلف درعا، ليضم إلى إمارة عبدالله بن الحسين في الاردن..
اما العراق فقد مُنح الحكم للسنة بشخص الملك فيصل الاول (شقيق الامير عبدالله) بعدما طرده الفرنسيون من سوريا.. وتم تعزيز موقع السنة على حساب الشيعة لتكون فتنة.
لم تكن شبه الجزيرة معنية بهذه التطورات، فالسعودية مملكة، والباقي امارات ومشيخات تعيش حياة البداوة خارج التاريخ..
تدريجياً، أخذ الاميركيون، ومعهم البريطانيون دائماً، وهم من كان لهم “وجود رمزي” في اقطار الخليج يكتشفون النفط في الدولة التي استحدثتها بريطانيا من تجميع سبع مشيخات في “دولة الامارات العربية المتحدة” التي اسندت رئاستها إلى الشيخ شخبوط (الذي بلغ حرصه على الثروة الطارئة، انه كان يضع عوائد النفط تحت مقعده، قبل أن يقنعه بعض مستشاريه بان يأتي بخزنة لوضع العوائد فيها)… ثم انهم تولوا خلعه ونصبوا مكانه الشيخ زايد الذي كان حكيماً وفي ايامه تم تجميع سبع مشيخات في دولة الامارات العربية المتحدة، وابتدع لها نشيد وعلم، بعد “تسوية مجزية” مع ايران التي كان لها جالية تزيد اعداد افرادها عن سكان الدولة الجديدة.
فأما نفط السعودية فكان من نصيب شركة تابلاين الاميركية التي كانت اعظم نفوذا من آل سعود.. لا سيما وان المملكة، التي انشأها بالسيف والتواطؤ مع الخارج الملك عبد العزيز، كانت تعاني الفاقة والعوز.
ولقد عمل البريطانيون على ابقاء مشيخات الخليج (الكويت وقطر ودولة الامارات العربية المتحدة، ثم سلطنة عمان) خارج دائرة نفوذ المملكة الوليدة، ليظل لهم مواقع نفوذهم الخاص بردوده الذهبي.
ثم تلاشى نفوذ بريطانيا، واسقطت صفة العظمى عن دولتها، وتراجع النفوذ الفرنسي بالثورة ضد الاستعمار في سوريا، وبالجلاء بالتراضي عن لبنان مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
كانت الولايات المتحدة قد دخلت المنطقة واخذت تتوسع فيها و”تنظم” شؤونها على قاعدة “العصا لمن عصا”، بالشراكة مع بريطانيا بداية، ثم لوحدها مع ابتداع الاحلاف ومشاريع الهيمنة الجديدة: مشروع ايزنهاور، حلف بغداد (مع بريطانيا)، “مشروع الشرق الاوسط الجديد” الخ.
وكان الهدف المركزي لكل هذه الاحلاف حماية الكيان الاسرائيلي المستولد بالقوة (في مثل هذه الايام من العام 1948) والذي تنافس الاميركان والسوفيات على تبني هذا المشروع الاستعماري وحمايته.
هكذا تم تقطيع الوطن العربي وتوزيع “نتفه” بين المستعمرين (بريطانيين وفرنسيين ثم اميركان، فضلا عن زرع الكيان الاسرائيلي في قلبه) إلى “دول” لا تملك معظم اسباب الحياة، ولا القدرة على حماية كياناتها، بما يعني انها اضعف من أن تستقل، ولكنها تحرض يوميا ضد الوحدة والاتحاد، لتبقى “اسرائيل” الدولة المهيمنة على المنطقة، خصوصاً وانها معززة بالدعم الغربي والخيانة العربية والحماية الاميركية.
…وها أن “اسرائيل” الآن، وبعد عزل مصر ـ بأفضال معاهدة الصلح بعد لقاء السادات وبيغن في كمب ديفيد برعاية الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر، تتصرف وكأنها الدولة الاقوى بفضل التخاذل العربي (إلى حد الصلح معها) والدعم الاميركي المفتوح وغرق “العرب” في ليل الهزيمة الذي لا تبدو له نهاية قريبة.
ولكن ..
” ما اضيق العيش لولا فسحة الامل”.
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية