طلال سلمان

مقطع من حديث متصل مع غائب

نشرت في 12 شباط 2010

لا يغيب على امتداد أسابيع، اليوم منها بدهر، كنا في الخارج، وكان في الداخل وبيننا شبح الموت يخطر فيرانا ونحس بأنفاسه فوق وجوهنا ومن حولنا يرانا ولا نراه، مع انه الأعظم حضوراً.

يمر بنا الأطباء متعجلين، يلتفتون ويتمتمون بأنصاف كلمات، وترتسم على وجوههم نتف من ابتسامات آلية، يعرفون انها لا تطمئن الملهوفين إلى كلمة تبث شيئا من الأمل، ولكنهم لا يملكون ان يعطوا أكثر منها.

كيف يمكن ان تبلغ هؤلاء المتقلبين فوق أحزانهم، أن انتظارهم عبثي، وهم لا يملكون من حطام الرجاء الا انتظار المعجزة التي لا تجيء؟

يأتي الزائرون الذين عرفوا للتو. يُظهرون أساهم مشفوعاً بحقيقة انهم قد فوجئوا بالخبر. يتجنبون ذكر اسم المرض. يهربون من السؤال المباشر. يحتل الخوف المساحة البيضاء. تهرب العيون من العيون. يفتعل واحد حديثاً عن أي موضوع، كزحمة السير، تقلبات الطقس، الخلافات السياسية. ويجتهد آخرون في دفع الحديث بعيداً عن المكان والزمان.

هو وحده في الداخل. يأتيه الطبيب بين فينة وأخرى، يطمئن إلى عمل الأجهزة. يحاوره بالعينين، باليدين، بالابتسامة الباهتة. يشير إلى الممرضة فتهز رأسها دلالة أنها عرفت ما يريده. تطمئن إلى وضع الكمامة فوق الوجه. تراقب حركة التنفس. تبتسم له بود. تدير وجهها عنه إذا ما انتبهت إلى ان بعض ملامح الأسى قد ارتسمت فوقه. تعود إليه مقبلة تتقدمها ابتسامة عريضة. لو انها تستطيع أكثر لأعطت. هي تعرف انه يعرف.

الأطباء أكثر صلابة. لقد اعتادوا مواجهة الموت. احترفوا مقارعته بعلمهم. أحيانا ينتصرون عليه، أو انهم يفترضون انهم قد انتصروا. لكنه كثيرا ما هزمهم وأرجعهم إلى أحجامهم: ماذا يملكون في مواجهة القدر؟ ولأنهم عايشوه طويلاً، وعاينوه وهو يقترب من مرضاهم فينتزعهم من بين أيديهم، ويتركهم غارقين في وحدتهم، يفكرون ويعيدون استعراض مراحل العلاج ليتثبتوا من انهم لم يخطئوا لا في التشخيص ولا في تحديد العلاج، لا في المتابعة، ولا في المراقبة، فإذا ما خلصوا إلى أنهم قد أدوا واجبهم كاملاً، لبست وجوههم ملامح الجد مختلطاً بالحزن، وتقدموا يشدون على أيدي أهل الفقيد، وتمتموا بكلمات الأسف، مشفوعة بالتأكيد ان كل ما يمكن تقديمه قد تم تقديمه، وأن هذا هو قدر الله، لا مفر منه ولا مهرب… و”البركة في الشباب”.

لن يصبح الموت أليفا حتى لو جلست في أحضانه أياماً وأسابيع. سيظل مخيفاً مهما كانت مقدماته منطقية. سيظل غامضا، بلا ملامح، جباراً عتيا، حتى وأنت تغالبه ويغالبك ويترك لك فرصة ان تتوهم انه قد جاء قليلاً ثم مضى.

يوماً بعد يوم، تهاوت الأشباح المخيفة المحيطة بالموت. صار الموت شريكا في جلسات انتظاره، يسمع التعليقات حول انقضاضه فجأة، أحيانا، وحول تسلله بخفة الثعلب أحياناً، حول احاطته بالموجودين. ها هم كلهم في أحضانه، يحادثونه، يشكونه إلى ذاته، يتأففون، يضيقون به ذرعاً، ثم في لحظة أخرى يرونه رحيما… بل قد يطلبونه بالرجاء ان يأتي كي يريح مريضهم. يسقط الخوف تماماً. يصير الموت في مستوى الأمنية. يبلغ الحب ذروته: تتمنى ان يأتي الموت ليريح هذا الذي تكاد تكون منه او يكاد يكون منك. يصير الصمت لغة الحب الموؤود… وحين ينحب الصمت تهرب بعينيك إلى السماء فيهطل مطرها غزيراً من دون أن يشوش على حزنك الأبكم. تنظر من حولك، تتأمل في وجوهه الباقية بعده، وقد غمرها إحساس ثقيل يختلط فيه الحزن بالزهو بجسامة المسؤولية: هم الآن في مواجهته تماماً. سيرافقهم حيثما ذهبوا. سيتقدمهم وسيكون عليهم دائماً ان يخوضوا الامتحان الصعب معه ليؤكدوا جدارتهم به. ولعل بعضهم سيندفع إلى الأبعد كي ينتصر عليه فيُفرحه. اما حين تصل «الضيعة» الغارقة في حزنها على نخبتها التي تغيب بعدما جعلتها «اسم علم»، فلست تملك ما تعزي به أهلها غير أهلها.

Exit mobile version