ليس الياس أبو رزق هو فلاديمير ايليتش لينين، ولن يكون، مهما نفخ في طموحاته الشخصية وفخَّم خطابه وتصريحاته متجاوزù قدراته الذاتية والتنظيمية، ولا الاتحاد العمالي العام هو الحزب الشيوعي الروسي في خريف 1917، ولن يكون حتى لو انضم إليه آخر عامل صناعي أو زراعي وآخر مدرِّس في لبنان.
كذلك فليس رفيق الحريري هو »القيصر«، ولن يكون، مهما استعار من تقاليد البلاط ومن المظاهر الملكية البدوية ليزركش بها الفولكلور الغربي لهذه الجمهورية الريفية والمشرقية بالتكوين كما بالتخلف »العصري«.
والمفارقة بين الواقع وبين الخطاب السياسي لدى هذين »القطبين الجبارين« تكاد تحوّل هموم اللبنانيين ومطامحهم وقدراتهم إلى لوحات كاريكاتورية رديئة التصنيع تضيع في ثنايا مبالغاتها المتبادلة المعطيات الأصلية للأزمة الاقتصادية الاجتماعية، ومن ثم اقتراحات الحلول الممكنة والضرورية لها.
إن كلاً منهما يقفز من فوق المحسوس والمنطقي إلى »تعجيز« خصمه بمطالبته بما لا يملك ولا يستطيع، ليلقي من بعد عليه الحجة ويحمّله المسؤولية عما هو كائن وما قد يكون »مما لا تحمد عقباه«..
ولقد تحوّل السجال العقيم بين الاتحاد العمالي والحكومة إلى حفلة زجل من الدرجة الثالثة، عمادها الأساسي المبالغة المضيِّعة للحقيقة وتخويف الآخر بقوى تتجاوز قدراته الذاتية أو هو لا يملك أن يسخّرها لخدمته وبالتوقيت الذي يناسبه ولأمد معلوم ثم يقرع لها جرس الانصراف فتؤدي له التحية وتعود إلى مواقعها الأصلية قانعة من الغنيمة بالاياب.
الاتحاد يهدد الحكومة المستهلكة رصيدها بالشارع وبجماهير ليست منتسبة تنظيميù إلى صفوفه، ولا تتسق مطالب بعضها مع مطالب البعض الآخر،
والحكومة تهدد الاتحاد بالعسكر والتدابير الاستثنائية التي يتطلبها الاستقرار، وتهول بشق الحركة العمالية، الضعيفة أصلاً، و»استقطاب« بعض الفئات التي يدعي تمثيلها، والتحريض عليه سياسيù من خلال التركيز على علاقته بقوى من خارجه تلتف من حوله الآن انتهازيù، وتتخذه متراسù لمطالبها الذاتية المباشرة، أو لاعتراضاتها »السياسية« على الحكم كله، وعلى نهجه العام، وعلى علاقته المميزة مع سوريا بالذات، وليس على الحكومة وحدها واجراءاتها أو نهجها الاقتصادي المضطرب.
وأفدح خطأ يمكن أن يرتكبه الاتحاد هو أن يهجر مطالبه المباشرة إلى المعارضة السياسية المفتوحة لكل ذي غرض، متوهمù في نفسه القدرة على تشكيل »قيادة الثورة« أو أداتها أو التنطح لمهمة »الإنقاذ« وتقديم »البديل« المؤهل لحل معضلات مزمنة تزيد من حدتها تعقيدات الأوضاع السياسية العامة وتشابكها مع التطور الأخير في الصراع العربي الإسرائيلي بكل احتمالاته الدقيقة والخطرة.
كذلك فإن أفدح خطأ ترتكبه الحكومة هو أن تنسى وظيفتها الطبيعية ومسؤولياتها المباشرة تجاه مواطنيها وهموم حياتهم اليومية فتكلف نفسها بالشؤون المصيرية، قوميù وعالميù، حيث لا تملك رأيù أو دورù، لتنسب إلى الاتحاد من ثم تهمة المشاغبة على الاستقرار وتخريب إعادة الإعمار والتشويش على المفاوضات التي يجمدها تعنت إسرائيل وإصرارها على جني مكاسب »السلام« من دون التخلي عن ذرة من »غنائم« الحرب والعدوان المفتوح على من يرفض الاستسلام لشروطها على الطريقة الهاشمية..
ولأن الاتحاد هو الطرف الأضعف في هذه المبارزة غير المتكافئة، حتى في الزجليات وكورسها، فمن الطبيعي أن تُحاسَب الحكومة على إهمالها المطالب القديمة ورفض الحوار الهادئ والمنطقي والمستند إلى القدرات الفعلية، بأرقامها الأصلية وغير المزورة،
… خصوصù وأن هذه الحكومة تدعي في المجالات الأخرى قدرات خارقة، من إعادة الثقة إلى إعادة الإعمار إلى بناء البنية التحتية، إلى زيادة الاحتياطي في المصرف المركزي وبأرقام فلكية، إلى الحصول على قروض لم تطلبها، إلى التصحيح التاريخي لميزان المدفوعات الخ…
أتقدر على ذلك كله ثم تعجز عن تلبية مطالب الفئات ذات الدخول المتواضعة من موظفيها، أو التقديمات البديهية للعمال، والتي تتبارى في تعزيزها الأنظمة الرأسمالية والتي »تعلمت« الكثير من الشيوعية حتى سرقت منها الجمهور والعرش؟!
الكل في المأزق الآن،
ولقد خسر لبنان، بحكمه، وشعبه، الكثير من الرصيد الذي استعاده بعد إنهاء حربه الطويلة، على الصعيدين العربي والدولي،
وهي خسارة ستدفع هذه الحكومة بالذات فاتورتها الثقيلة، اقتصاديù وسياسيù،
ولا مجال للفرز بين مزايدات المعارضات السياسية المشبوهة للنظام ككل، وللعلاقات المميزة بين جمهورية الطائف وسوريا، وبين المطالب المحقة للفئات التي تعاني من الضائقة الاقتصادية، إلا بمبادرة شجاعة تقدم عليها الحكومة.
والمبادرة تكون بالدعوة الى حوار وطني شامل للأزمة العامة في ضوء القدرات الفعلية للبلاد، وتشرك فيه إضافة إلى الاتحاد العمالي العام أرباب العمل والهيئات الاقتصادية عمومù وأصحاب الرأي والخبرة، من أجل الوصول الى عقد اجتماعي جديد ينظم العلاقات داخل المجتمع في هذه المرحلة الحرجة ويحدد لها ضوابط السلامة، من دون اللجوء إلى القمع أو التحدي بخلخلة الاستقرار نكاية بهذا أو ذاك من رجالات السلطة الملوحين بسيوف ليست في أيديهم.
الخوف أن تكون الحكومة قد باتت أسيرة »زجلها« الانفعالي في الرد على »الزجل« الثوري للاتحاد العمالي العام.
والخوف أن يستمر الاستقواء بالقوى غير الذاتية بما يمنع الطرفان من حسن تقدير الموقف وبالتالي من تجنب المواجهة غير الضرورية، والمكلفة جدù، في حال تعذر منع حصولها،
هل يملك مجلس النواب ما يقدمه في هذا المجال؟!
أم هل يبادر رئيس الجمهورية فيدعو إلى حوار وطني من أجل عقد اجتماعي يكون ترجمة أمينة لكل ما نص عليه الدستور في جمهورية ديموقراطية برلمانية، مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المرحلة التي تجتازها البلاد والمنطقة والعالم كله، اقتصاديù واجتماعيù وسياسيù؟!
ألم يتبق في هذه »الدولة« طرف له من النزاهة وحسن القراءة والحرص ما يكفل منع الصدام بين هذه الجمهورية التي تحمل في بنيتها تشوهات الولادة العسيرة، وبين جمهورها الذي لا يجد طريقù إلى السلام الأهلي غير »القتال« ضد الذين أوكلت إليهم الظروف أو أوكلوا إلى أنفسهم مهمة جليلة تفوق قدراتهم الذاتية وإن كانت أقل من ادعاءاتهم التي تنصبهم في منزلة بين المنزلتين: اما »القيصر« واما فلاديمير ايليتش لينين؟!