الحرب ضد أفغانستان، وفيها »طالبان« في موقع الحكم، وأسامة بن لادن في موقع »القاعدة« والقيادة والخزينة والمرشد السياسي والديني، خبر قديم.
السؤال الآن: مَن وأين سيكون الهدف الثاني لهذه الحرب الأميركية المفتوحة ضد عدو بلا ملامح وبلا حدود بحيث يمكن أن يكون أياً كان (دولة أو تنظيماً أو رجلاً) في أي مكان وزمان.
مَن وأين سيكون الهدف الثاني، الذي سيُحكم بالإعدام بغير محاكمة، وسيتم إعدامه بغير اعتراض، حتى من أهله، وسيدفن تحت الركام بغير مشيعين؟!
إنها حرب ظالمة ضد أمة مظلومة عبر تاريخها الطويل… لكن أحداً لا يعترض ليس لقوة الدليل ولكن لقوة »بطلها« الأميركي الذي حدّد مسرحها و»عيَّن« خصمه فيها، وهيّأ لها »التحالف الدولي«، ثم باشرها وقد حوصر »الممانعون« بالخوف، فأداروا وجوههم إلى الناحية الأخرى… حيث تنقل لهم شبكات التلفزة بتقنياتها الحديثة الحرب من طرف واحد، التي أبطالها خطوط ضوئية وأصوات انفجارات تضيء ليل الموت، وأموات بلا قبور.
لقد لازم التوفيق، مرة أخرى، الولايات المتحدة الأميركية في اختيار ضحيتها الجديدة التي تكاد تكون »نموذجية« لتبرير حرب ظالمة كهذه التي بدأت ليلاً، عشية انعقاد المؤتمر الخطير (!!) لوزراء خارجية الدول الإسلامية، واستباقاً لشهر رمضان المبارك بتفجير مدن وقرى ومنشآت، بدلاً من تلك المدافع الوهمية التي تعلن الغروب وتسمح للمؤمنين بأن يفطروا!
منحت التفجيرات في نيويورك وواشنطن، التي استنكرها العالم كله، أقوى قوة في الكون، بعض ملامح الضحية، فأحسنت استغلالها في وضع يدها على الدول والشعوب جميعاً عبر »الحكومة العالمية« ممثلة بمجلس الأمن وقد باتت أختامه الآن بتصرفها تقرّر بموجبها من تُدين فتُعدم ومن تبرئ فيعيش في إسار امتنانه العميق لكرم أخلاقها وتسامحها النبيل (كما نسرها المالئ الأجواء الآن باللهب).
بالمقابل حرم التعاطف الدولي »المتهم« الذي لم يكن معنياً بتبرئة نفسه من التفجيرات في العاصمتين الأميركيتين، أفغانستان، من موقع »الضحية« وملامحها، فعاش الناس في ترقب الحرب وكأنها قدر لا راد له، بغض النظر عن موقعها من »العدالة بلا حدود«.
وهكذا فإن شعب أفغانستان الذي تنهال عليه الآن صواريخ القتل الجماعي والقذائف الذكية الموجهة من بُعد، لا يحظى بأي تعاطف فعلي، فهو مقتول أو مرشح للموت ولكن بلا قضية (معترف بها) تقريباً. كأن »المواطن« الأفغاني لا وجود له. كأنه مخلوق هبط على هذا العالم فجأة من خارجه، فهو بلا أهل، بلا وطن، بلا ماض ولا حاضر ولا مستقبل، ولا قضية. كأن العشرين مليون أفغاني قد تكاثفوا وتركزوا واندمجوا في شخص واحد هو أسامة بن لادن! كأن هذا الشعب كان فائضاً عن الحاجة في هذا العالم. كأنه الإرهابي الأوحد والمخرب الفرد لأمن العالم وسلام البشر في كل مكان وزمان.
مَن وأين سيكون الهدف الثاني؟!
الهجوم على أفغانستان والبال في فلسطين، والقلق على العراق وجهات عربية (وإسلامية) أخرى تطارد »شعوبها« تهمة الإرهاب كاللعنة، و»المؤدب« الأميركي جاهز للاقتصاص، ولا مجال للتوبة!
فبين الهدفين، المعلن الجاري تدميره في أفغانستان، والهدف الثاني المضمر، تتردد كلمات مبهمة الدلالة والمقاصد توحي بأن الحرب لن تنتهي حيث بدأت في ليل الثامن من تشرين الأول، ولا بتحقيق أهدافها المعلنة (كإسقاط حكم طالبان، أو قتل أسامة بن لادن، أو اجتثاث جذور الإرهابيين الذين يتحصنون في تلك المجاهل من قعر الدنيا، غريبين عنها، مطارَدين ومعزولين ومرفوضين ومقطوعي الصلة بالذين يخاطبونهم الآن من »أخوانهم المسلمين«، ومنكورة عليهم صلة الرحم بأهلهم الأقربين)..
لكنها الرصاصة الأولى في حرب مفتوحة قد تدوم سنيناً طويلة، كما يؤكد الأميركيون الذين يريدون إعادة تثبيت سيادتهم المطلقة على عالم القرن الحادي والعشرين، وقد وفقهم الحظ الى »عدو« نموذجي في شكله ومضمونه، فأسلوب حكمه مرفوض ولغته السياسية متخلفة ومن خارج العصر، وشعاراته المطلقة لا تقنع أحداً، وأشكال مسؤوليه الظاهرين منفرة (بينما أمير المؤمنين محتجب لا تُعرف له صورة)، وكل ما يحيط أو يتصل به يُظهره وكأنه من مخلفات القرون الوسطى وعصور الظلام ولا يستحق الحياة في عصر ثورة المواصلات والاتصالات واختراق الفضاء و… حقوق الإنسان، طيب الله ثراها!!
مَن وأين سيكون الهدف الثاني؟!
الهجوم على أفغانستان وفي البال فلسطين.
القصف على كابول وقندهار وجلال أباد والذاكرة تستعيد صور بغداد والبصرة.. ولماذا الذاكرة طالما أن الحوامات والدبابات الإسرائيلية تدك الخليل وغزة ورفح وطولكرم وجنين وبيت جالا، وصور الشهداء، رجالا واطفالا وبيوتاً، تبثها الفضائيات العربية في مباراة مفتوحة لمن ينقل اولا وبلهجة موضوعية لا تكشف انحيازه، فاذا كان لا بد من الانحياز فلا بد من الطرف الثاني في الحرب من جهة واحدة، وهكذا يؤتى بالاسرائيلي ليبرر ويبرئ نفسه ويتهم الفلسطيني بانه قد عكر عليه الماء!
من وأين سيكون الهدف الثاني؟!
المذيعون يتبارون في وصف الحرب من خارج، بعضهم من العرب بحماسة شديدة، وبعضهم الآخر ببلادة من يتحدث عن امر بديهي مقرر وقد آن اوان تنفيذه، وفق الخطة المرسومة باحكام مبهم، وليس ثمة ما يستحق الدهشة او الاستغراب في هذا كله: لا عدد الضحايا ولا عدد المدن المهدمة ولا عدد البشر المشردين ولا حجم الخسائر المادية في بلاد لا شيء يمكن تهديمه فيها!!
الانبهار بالقاصف، بالقاتل من على بعد، وبغير ان يُرى او يعرف وجه ضحيته (تماماً مثل اولئك الذين فجروا فاوقعوا آلاف الضحايا في العاصمتين الاميركيتين) يجُبُّ هنا التعاطف مع المقتول او المرشح للقتل: تلك عمليات ارهابية، اما هذه فحرب عادلة تشنها اميركا ومعها من اختارت من حلفائها باسم الشرعية الدولية على هؤلاء الخارجين على القانون!!
هل يتساوى الافغان المتخلفون، ذوو اللحى الطويلة والجلاليب المتسخة، والحابسون نساءهم خلف اسوار الملابس التي تغطي الجسد والوجه فلا تبقي منه الا شبابيك مخرمة تسمح بالكاد بتبين مواقع الاقدام؟!
البطل الاميركي (مساندا ومعززاً بتابعه البريطاني وبحليفه المتردد الفرنسي ثم بحلفاء متبرعين في طليعتهم الاتحاد الروسي) يتقدم الى الحرب بكامل أبهته، بكامل ثرائه، بكامل ترسانته الحربية التي لا حدود لطاقتها النارية، ضد عدو شبحي، لا حليف له ولا صديق ولا نصير ولن يفتقده احد لو اختفى!
بين آخر حروب القرن الماضي واولى حروب القرن الجديد (المفتوحة؟!) صلة نسب ووجوه شبه عديدة، فثمة بعض »الملامح« العربية للضحية الجديدة فضلا عن ان بطلها الاميركي الجديد هو ابن بطل الاولى، اخذ عنه وتعلم من تجربته فتحاشى بعض اخطائه.
أحد الفروق الاساسية ان العرب، هذه المرة هم خارج التحالف الدولي، لكنهم داخل »الحرب« طلبوا ذلك او سكتوا عنه، وهم في خوفهم يعمهون!
من واين سيكون الهدف الثاني… من بين العرب، طالما انهم لم يحظوا بشرف الحليف، ولم يستطيعوا ان يميزوا انفسهم او يفرضوا شروطهم للدخول فيه او للخروج منه..
ذلك هو السؤال!!