يتابع اللبنانيون جلسات التشاور وأيديهم على قلوبهم، كما يقولون في التعبير عن القلق العارم.
إنهم يريدون للتشاور الذي أُحلّ محل الحوار أن ينجح فيمنحهم فسحة من الهدوء والارتياح النفسي والقدرة على التركيز على شؤون حياتهم، وهي كثيرة وثقيلة الوطأة، وهم في وطنهم.
لقد نشأ، بالقصد أو بالافتعال، بالتحريض أو بالتداعيات المنطقية للخلافات، جو من التوتر والشك المتبادل بالنوايا، والخوف أو التخويف المفتعل بقصد استثماره سياسياً. لم يعد اللبنانيون عموماً، وقياداتهم خصوصاً، يستمعون لبعضهم البعض. لم يعودوا يثقون ببعضهم بعضاً. ما كان في مرتبة المسلّمات تهاوى بالجدل ليصير موضع مناقشة أو اعتراض.
تجاوز الأمر السياسة والسياسيين بتقلباتهم وتبديل التحالفات ليمس ما لم يكن يُمَس من مرتكزات اليقين في هذه اللحظة: صارت الحرب مع العدو الإسرائيلي موضع أخذ ورد، وصل الأمر بالبعض إلى إنكار الانتصار فيها والتخلي عنه إلى من لا يستطيع أن يدّعيه، أي إسرائيل.. والانتصار شرف عظيم لهذا الوطن الصغير وشعبه جميعاً: من قاتل على خط النار، ومن قاوم بصموده، ومن احتضن الصامدين عندما هجّرهم القصف الهمجي الذي استهدف الإنسان والعمران، من واجه التحالف الأجنبي الذي دعم الحرب، والأنظمة المتخاذلة التي أجبرها التأييد الشعبي العارم للبنان المقاوم على التحرك والمساندة ولو بتأثير الخوف من جماهيرها التي عاشت تتمنى أن يعاد إليها الاعتبار ولو بنصر محدود، يمكن أن يتجلى بمنع العدو من تحقيق أهدافه، فإذا بها تفاجأ بنصر أعظم مما كانت تتمنى أو تقدر، وفي أصغر البلدان العربية وأرقها وأكثرها هشاشة: لبنان.
هذا واقع كريه، ولكنه واقع… يمكن أن نضيف إلى بشاعاته تأثير التدخل الأجنبي، والأميركي تحديداً، بمساندة إسرائيل بداية و إلزامها بإطالة أمد الحرب لعلها تستطيع أن تحقق نصف انتصار، ربع انتصار، فلما تأكد فشلها كان القرار الدولي .1701
هذا واقع يعكس حالة مَرَضيَّة يعيشها لبنان. أسبابها عديدة، بعضها طارئ ومستجد يمكن أن يدرج في خانة رد الفعل الذاتي على سوء التقدير أو الخطأ في الاستنتاج أو خيبة التوقعات أو خذلان الخارج، أو المفاجأة بقدرات استثنائية للمقاومة وثبات الناس على تأييدها برغم خسائرهم الكارثية، وبعضها مما لا يمكن تعويضه… أما البعض الآخر فيعود إلى التاريخ وإلى التركيبة الطوائفية للبنان وعلاقاتها جميعاً بالخارج، قريباً كان أم بعيداً..
كل ذلك معاً تسبّب بشرخ خطير ليس في الواقع السياسي فحسب بل كذلك في الواقع الاجتماعي: في علاقة اللبنانيين بعضهم ببعض، وفي علاقتهم بالسلطة القائمة، قبل أن نشير إلى التردي بل الانهيارات التي أصابت التحالفات القديمة والتفاهمات التي بُنيت عليها، ثم انهارت أو هي تبخرت عندما اشتدت الحاجة إليها، والتي كان طبيعياً أن تصدّع السلطة القائمة، بما فيها من إشكالات سابقة على الحرب.
إن أخطر ضحايا الحرب هي الثقة التي كان اللبنانيون يفترضون أنها قائمة ومتينة وراسخة بين قياداتهم ذات الحضور الشعبي الوازن.
ومع افتقاد الثقة المتبادلة بات كل شيء قابلاً لسوء الفهم أو سوء التقدير، واتسعت المساحة أمام سوء النية، وبالتالي
أمام التدخلات الأجنبية التي من مصلحتها تحريض أطراف ضد أخرى بحيث تسود القطيعة، وفي ظلام القطيعة وتعطّل الحوار والريبة والشكوك المتبادلة يضيع النصر، وتضيع الحكومة بل ويتهدد الكيان ذاته حتى لو أرسلت إليه الدول جيوشها جميعاً البرية والبحرية والجوية (التي قد تتمكّن من حماية الأجواء اللبنانية)..
والمفترض أن القصد من التشاور، في التقدير العام، أن يعود الأطراف، لا سيما الأساسيون بقوة تمثيلهم، إلى التلاقي والتحاور حول الهواجس المتبادلة، والمصارحة بالمخاوف والمخاوف المقابلة، بحيث يمكن فتح الباب لحوار هادئ يرتقي من التفاصيل المنهكة إلى جوهر المسائل المختلف عليها.
إن التشاور، في أحسن الحالات، محطة لفتح باب الحوار الصريح والجدي بل والقاسي، بما يزيل الشكوك والريب، فإن هي سقطت بالتوضيحات المتبادلة صار أمر الحكومة بين التفاصيل، أما إن تأكدت (لا سمح الله) فعلى الدولة السلام. ولن يكون ثمة رابح وخاسر بل سيكون الجميع خاسرين. وأعظم الخاسرين هو المواطن العادي الذي سيفقد مع أحلامه وطنه.. المنتصر.