“حطيت الباسبور”، هي الإشارة التي يبدأ بها الأستاذ مصطفى ناصر الحديث بعد العودة من أي سفر. تعني الإشارة أن سرد الرحلة ومغامراتها يبدأ من ختم جواز السفر عند الأمن العام لدخول بلد الزيارة حتى المغادرة، وهذه الإشارة من اختراع الصحافي اللبناني وأحد أركان صحيفة النهار الراحل ميشال أبو جودة.
هكذا بدأ ناصر يحكي عن سنوية رحيل الصحافي المصري الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل.
“سنوية رحيل الأستاذ كانت على طريقته”، يشرح الأستاذ ناصر، معدّلاً من نظارته قائلاً “هيكل دقيق حتى في ذكراه السنوية وطريقة الترتيب من دون مبالغات ولا صرعات، هذه هي شخصية هيكل”.
“وأين أُقيمت السنوية؟” سألته.
“في مدفن عائلة هيكل، هناك إجتمعت الست هداية والأولاد وبعض الأحفاد ومعهم سكرتيرته وبعض الأصدقاء. وصلنا إلى بقعة أشبه ما تكون في الصحراء. فتحت زوجة الراحل الباب الحديدي الأخضر للمدفن (أنشىء في سبعينيات القرن الماضي) لنجد أن المكان مرتب بعناية شديدة. ورود حمراء كتلك التي كان يزين بها هيكل حديقته في برقاش إحتفالا بالمناسبات ولا سيما عيد ميلاد زوجته. أقل من عشرين كرسيا خشبيا. جلسنا جميعا نستمع إلى الشيخ يجلس في الوسط وهو يجوّد باقة من الآيات الكريمة، وأمامنا المدفن البسيط الذي رقد فيه هيكل بلا بهرجة. على الرخام، لم تنقش إلا عبارة محمد حسنين هيكل وتحتها يا “ايتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية”. أمام المدفن، وكان طقس شباط في القاهرة مشمسا ودافئا، تحلق من حول أولاد هيكل ونبيل العربي (عديل هيكل) ثلة أصدقاء. إستعدنا لحظة الرحيل وكيف جاء أصدقاء من كل أنحاء العالم، وبينهم بطبيعة الحال أصدقاء سعوديين، وكيف قدّم العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، العزاء إلى جميع أفراد عائلة هيكل في اتصال هاتفي”. إستفضنا في الحديث عن تلك الرحلة وأحوال أولاد هيكل وجائزة هيكل السنوية وجمع مؤلفاته ومقتنياته ومزرعة برقاش… وصولا إلى لبنان البلد الذي كان يحبه هيكل ويملك كنزا من الصداقات فيه منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى آخر لحظة من حياته.
فجأة أخرج مصطفى ناصر من حقيبته العدد الخاص لمجلة المصوّر المصرية، وعلى غلافها صورة هيكل. سألته وأنا أتصفّح ما بين يديّ إن كان قد جلب معه المجلّد الخاص بهيكل، الذي يحوي جميع مقالاته. وهو المجلّد الذي جمعته عائلة هيكل، وضمّنته مقالاته الشهيرة التي اندرجت تحت عنوان (بصراحة). وهي أيضاً المقالات التي كانت تُبثّ كل يوم جمعة قراءةً بعد الساعة الخامسة مساء، عقب نشرة الأخبار.
أجاب الأستاذ ناصر بأن المجلّد في السيارة، فقد جاء على عجلة من المطار.
في المنزل، بسطت المجلّد أمامي، وبدأت أتصفّحه. قلّبت صفحاته لأنتقل من مقال إلى آخر، ومن حدث إلى حدث سجّله هيكل في مقالته الأسبوعية. ثم قفز أمامي عنوان مقال، برز من بين صفحات المجلّد وعنوانه “أزمة الثقافة والمثقّفين”.
تأمّلت العنوان لأقول في نفسي، غريب كيف أن رجلاً عاش زمن توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وأم كلثوم وإحسان عبد القدوس، ولويس عوض، وأحمد بهاء الدين، وزكي نجيب محمود، وعائشة عبد الرحمن، وعباس محمود العقاد، والعميد طه حسين، وغيرهم الكثير، ممّن سجلوا في عالم الثقافة بصمات دامغة، يكتب أن هناك أزمة!
لا بل أكثر من ذلك، نحن أمام رجل صنع الطابق السادس في صحيفة الأهرام، طابق الخالدين، الذي أنتج أهم الروايات العربية والعالمية التي حصدت جوائز متعددة. كرواية أولاد حارتنا، والثلاثية لنجيب محفوظ، وحصوله على جائزة نوبل. ولا يمكن القفز فوق قصة نشر رواية توفيق الحكيم “بنك القلق”، وكل ما دار حولها.
أساساً، في ذلك الزمن كانت الثقافة تُستمد من صفحات الجرائد والمجلات، يوم كان كتّابها ومحرّروها صنّاع الرأي العام، وساحة للتيارات الثقافية وصراعاتها.
كمجلتي “روز اليوسف” و”آخر ساعة”. لكنه، أي هيكل، كرئيس لتحرير صحيفة الأهرام، كان يرى أنّ هناك أزمة في الثقافة والمثقفين.
مندفعاً ومتسلّحاً بعنوان المقال، قصدت الأستاذ ناصر، مفرغاً لديه ما أحمله من علامات التعجب بشأن ما ورد في مقال هيكل.
قرأ المقال بتأمّل وتمتم قائلاً “إيه ليش لأ، رأيه أنّه كان هناك أزمة ثقافة وقتها”.
أجبته متسائلاً “عجيب، يوجد مثقفون، ولا توجد ثقافة؟”
“لا، لا أقصد ذلك، انت بدك تعرف أيّ مثقف تقصد. المثقف إنسان أيضاً عنده حسابات تخضع للبيئة التي يعيش فيها، متأثراً ومؤثّراً”، أجابني.
لم يشفِ غليلي بإجابته، وعدت متأبّطا أوراقي والمجلّد، وعقلي يحمل السؤال الكبير، هل أزمة الثقافة مفتعلة، أم هي تمر بمراحل صعود وهبوط؟ وما هو المعيار لزوال أزمة الثقافة؟
عندئذ لجأت إلى المحاضر المتعدّدة التي جُمع فيها كلام الأستاذ ناصر وهيكل. ووضعت بجانبي مجلّد هيكل، وأنا جالس في ممر منزلي المؤدّي الى غرف النوم.
نشرت الأوراق مرة أخرى أمامي لعلّي أجد جواباً من أحاديث متعدّدة جرت بين الرجلين. لكن ما وجدته كان أسئلة، أكثر منها أجوبة.
وبالرغم من إصرار الاثنين على توصيف نفسيهما بأنهما صحافيّان، كانت ثقافتهما الأدبية تنضح من بين السطور والورق. كانت الكلمة التي يُطلقها الأستاذ ناصر وجرسها، يقرعان ويُطربان ببراعة في وسط الحديث، فيقابله الأستاذ هيكل بأدب على الأدب. وينتهي الحوار والقضايا بجملة، أو نكتة، أو بيت شعر.
وأَحبّ بيوت الشعر لدى الأستاذ ناصر كان للشاعر بيرم التونسي:
يا بائع الفجل بالمِلّيم واحدةً
كم للعيال وكم للمجلس البلدي
كان يستعيده كلّما كان الحديث يدور عن فساد السياسيين.
وعند قراءة هذا البيت، كانت تلتمع عيناه من خلف نظّارته، وهو يفرك بسبّابته وإبهامه، بينما يهزّ رأسه يمنة ويسرة. ثم يُطلق ضحكته المجلجلة.
أما عند هيكل، فلطالما سمعت منه هذا البيت من الشعر في جلسات متعدّدة، كأنه يعيد فيه شريطاً من الماضي يحبّ أن يتذكره. في هذا البيت الكثير من البلاغة، في وصف الحرب والرجال.
يقول بيت الشعر:
خلت الرقاع من الرخاخ
ففرزنت فيها البيادق
والمثير في اختيار الرجلين لهذين البيتين، أنهما يتضمّنان المفتاح للشخصية الأدبية، والطريق لفهم منسوبهما الثقافي.
وترداد هذين البيتين استمر في معظم الحوارات، بالرغم من قدرتهما الكبيرة على استخدام مهاراتهما اللغوية في التعبير والتصوير.
لعلّي لا أبالغ إذا قلت إن في البيتين مفتاحاً يفسّر شخصية المثقفَين اللبناني والمصري. اللبناني يشكو من الفساد والمحسوبية في المجلس البلدي، والمصري يجد أن بلده عندما يخلو من القادة، سيجد أن أرضه ترقع بالبيادق.
وفي أحد اللقاءات أتذكّر سؤالي الأستاذ هيكل عن الثقافة في شخص جمال عبد الناصر. فكان جوابه أن الرئيس عبد الناصر كان مثقفا حقيقياً. كان يحبّ القراءة ويتابع الكتابة. وأنه حاول كتابة رواية لم يكملها وهي “في سبيل الحرية”.
واستفاض في الحديث حينذاك وهو ينفث دخان سيجاره كعادته وقال “في أحد الأيام جاءني زكريا محيي الدين، والرئيس عبد الناصر. وهذا كان اللقاء الثاني بيني وبين عبد الناصر. كان زكريا يريد اطلاعي على بعض الشؤون الإسرائيلية، والأمور العسكرية، بينما جاء عبد الناصر يطلب مني كتابي “إيران فوق بركان”. لأن ثمن الكتاب كان باهظاً، ولأنه لا يستطيع شراءه. سعره آنذاك كان عشرة قروش!”.
وجّهت كلامي إلى هيكل قائلاً له: “من هو المثقف؟ أو كيف يكون الشخص مثقفاً؟”.
تلقّف الأستاذ هيكل الحديث مجيباً ومستفيضاً في تعريف المثقف، وقال “هناك ثلاثة أنواع من المثقفين: المتلقّي، والمعطي، والمتفرّغ للثقافة”.
ليكمل الأستاذ هيكل قائلاً “المثقف إنسان. وهو يملك قدرة على أن يكوّن رؤية. وعنده مقدرة على أن يتخذ موقفاً من الآخر، ثمّ من المجتمع، وأيضاً من الطبيعة. ثم ترافق هذه المقدرةَ قدرةٌ تعبيرية عن رؤيته ومواقفه بالكلام، والصوت، والصورة”.
“ماذا عن الفلاسفة؟ هل هم مثقفون في الأساس؟ يعني مثلاً ليس كلّ نبيّ رسولاً، ولكنّ كل رسول نبيّ!” سألت الأستاذ هيكل.
“أولاً كلمة مثقف ليست قديمة. بمعنى أنك لن تجدها في التاريخ البعيد. وهذا التعبير نشأ تحديداً إبان الثورة الفرنسية. يعني في عصر التنوير، يعني أيضاً في عصر كان الناس يتكلّمون فيه في الدين والسياسة والفن والطبيعة وغيرها. وتجلّى هذا الحوار الكبير في عصر النهضة. الموضوع هو أن المثقف ارتبط بفكرة تغيير المجتمع. من هنا يمكن اعتبار أن أصحاب الرؤية المغيّرة لمجتمعاتهم برزوا قبل الثورة الفرنسية، وقبل عصر التنوير. دور ساد في زمن الأنبياء” أجاب الأستاذ هيكل.
ثم أضاف الأستاذ ناصر شارحاً العلاقة بين الثقافة والفلسفة، وهو الدارس علم الفلسفة، تحديداً في جامعة السوربون الفرنسية، “شوف يا طارق فلاسفة الحضارة الإغريقية أدّوا دور المثقف. وهو الدور الذي تحوّل الى وظيفة كما ذكر الأستاذ هيكل، وكان مرتبطاً بمثقفي الثورة الفرنسية. لكنّ هذا الدور هو ما يفرّق بين المثقّف والفيلسوف”.
ليحدد الكلام أكثر الأستاذ هيكل بالقول “الفرق بين المثقف والفيلسوف، أنّ المثقف صاحب تحريض، أما الفيلسوف، فصاحب دعوة!”.
“جميل هذا الكلام”، قلت، لأسأل بعدئذ “طيّب والمال السياسي والثقافي أين دوره؟ نحن اتفقنا على أن دور المثقف أصبح وظيفة، وهو التفرغ للثقافة. حسناً من أين يكون دخل هذا الشخص؟”.
ضحك الرجلان ضحكاً غاص كل منهما من أثره في مقعده. ثم أشار الأستاذ ناصر لهيكل إلى الهدية التي قدمها إليه المستشار الخاص للملك عبد الله بن عبد العزيز، الوزير عبد العزيز التويجري. هدية مغلفة داخل صندوق فخم، يحوي كتابه ومقدمته التي خطّها هيكل. في داخل الصندوق نسخة من الكتاب، وعلبة أصغر، فيها قطعة ذهب كعربون شكر لهيكل.
عندئذ انتفض هيكل جازماً، ليخرج من خلف دخان سيجاره ويقول “لكنني رفضت الهدية، وأعدتها إليه”.
كان هيكل حاسماً في موضوع المال، وتدخّله في عمله. كما أنني سمعت مراراً وتكراراً منه، ومن الأستاذ ناصر أيضاً، الكثير من القصص عن ذلك.
كان الرجلان، وكل من موقعه، يعرفان حق المعرفة العلاقة الشائكة بين المثقف والسلطة. ويعرفان أكثر أنّ بارومتر هذه العلاقة يخضع في كثير من الأحيان لمزاج السلطة، وفي أحيان أخرى للتقارير الأمنية التي تدبّجها أجهزتها الأمنية.
ومما كان يذكره الأستاذ هيكل هو محاربة الأجهزة الأمنية له في عهد عبد الناصر، لدرجة اتهامه بأنه برجوازي متنكّر بالثقافة، وعميل للرجعية في مكتب الرئيس. وكانوا ينصحون عبد الناصر بالابتعاد عنه.
وفي إحدى أوراقي وجدت حواراً مشوّقاً بين الرجلين، كان موضوعه الصحافة ومآلها، التي كانت كأنها سفينة يحرّكها موج المال السياسي، لا رياح الخبر والأفكار.
إلا أن ما لفت انتباهي لناحية الثقافة وأزمتها، استعادة الأستاذ هيكل مقولة الكاتب المصري يوسف القعيد في وصف أحد المثقفين والمستفيدين بـأنه من “طبقة المظليين”. وما كان يقصده بالطبع أنّ المظليين ينقضّون من السماء على مواقعهم في أرض المعركة للاحتلال أو التدمير!
عندئذٍ بدأت أزمة الثقافة تتجلّى أمامي.
- فصل من كتاب محمد حسنين هيكل ومصطفى ناصر: سياسة وصحافة وذكريات