خرج اللبنانيون إلى الشوارع، أمس، على امتداد الطريق من مخيم نهر البارد إلى بيروت، يحتضنون جيشهم العائد من الحرب ضد التطرف الديني وقد حقق نصراً مؤزراً برغم بل بفضل التضحيات الجسيمة التي دفعها شهداء وجرحى من ضباطه ورتبائه والجنود البواسل.
كان الحشد يتجاوز الأحزاب والتنظيمات والقيادات التي رغبت في استثمار هذا العيد ، وبينها مَن له سجل أسود في القتال ضد الجيش كمؤسسة تجسّد وجود الدولة وتقوم بواجبها الوطني في حمايتها…
كان الحشد يحمي النصر المهرّب الذي حققه الجيش برغم افتقاره إلى حكم وطني جامع يؤكد الإرادة الشعبية في دولة واحدة وموحدة لكل أبنائها بلا تمييز…
كان الحشد يلتف حول الرمز المتوهج الآن بدم الشهادة، والذي جسّد تلك الإرادة الوطنية العارمة بأنه لا غنى عن الدولة ولا بديل منها لضمان بقاء لبنان الوطن.
… وكان الجيش الذي قاتل لمئة وخمسة أيام طويلة بإمكاناته المتواضعة تلك العصابة التي تأكد له ارتباطها بتنظيم القاعدة ، مزهواً بنصره الذي حققه منفرداً وبغير شريك: فلا هو، الآن، جيش السلطة، ولا جيش المعارضة، ولا الجيش المتنازع عليه بينهما، بل هو فوق هذه الخلافات التي تجاوزت أي حد مقبول حتى هددت الدولة في وجودها فكيف بجيشها الذي إن ذهبت وحدتها ذهب ضحية الانقسام الذي سيتفجّر، وسيفجّره بغض النظر عن النوايا، حرباً أو حروباً أهلية.
بهذا المعنى فلقد كان اللبنانيون يعبّرون بهذه التظاهرات التي رافقت الجيش حتى ثكناته عن تمسكهم بوحدتهم، متجاوزين طروحات القيادات السياسية المطهمة التي تزاحمت على تقديم التعازي بشهداء الجيش، واستثمرت الجنازات في مختلف المناطق، ولكنها لم تتقدم خطوة واحدة على طريق إنهاء الأزمة السياسية التي تكاد تخنق البلاد في مضاعفاتها الاقتصادية والاجتماعية، غير المحدودة.
ولكن الاحتفال لم يُسقط من أمام عيون اللبنانيين الخارجين إلى الشوارع في طلب الدولة، الجانب المأساوي لهذا النصر والذي يتجاوز ما أصاب جيشهم وأبناءهم في محيط العمليات، إلى ما أصاب أبناء مخيم نهر البارد الذي كان جزيرة آمنة في وسط بحر الاضطراب العام في البلاد.
ومرة أخرى عاد هؤلاء المحتفلون بجيشهم وانتصاره يشددون ويؤكدون على ضرورة عودة الدولة، وتجديدها لتكون المرجعية الوطنية الواحدة، ولتكون الضمانة لحياتهم، وكذلك لحياة إخوانهم من الفلسطينيين الذين ألجأهم قهر الاحتلال الإسرائيلي إلى ديارهم، بدءاً من نقطة الحدود مع فلسطين إلى مشارف الحدود مع سوريا.
وكان طبيعياً أن ينتبه المحتفلون، ومعهم الجيش، إلى أنهم لم يكونوا وحدهم الضحايا، بل إن ثمة أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني، بالأطفال منهم والنساء والرجال، بالعجزة والمرضى والطلاب، بالعائلات التي فقدت منازلها المؤقتة ومصادر رزقها، قد أضيروا مثلهم وأكثر، إذ خسروا مرة أخرى كل شيء ، حتى البيوت المعارة أو المؤقتة أو المشتراة بعرق الجبين (خارج المخيم القديم)، وبات عليهم مرة أخرى أن يبدأوا من الصفر.. ولا معين!
ومع أن المقارنة لا تصح، إلا أن هؤلاء الأخوة الفلسطينيين باتوا الآن متروكين للريح: لا مرجع ولا مرجعية، لا بالمعنى السياسي ولا بالمعنى الأمني، ولا خاصة بالمعنى الاجتماعي… لا من وما تبقى من منظمة التحرير معني بهم، ولا المنظمات أو الفصائل قادرة، بغض النظر عن أهليتها السياسية، ولا الدول المانحة ، ولا خاصة تلك الوكالة الدولية (الغوث) التي أنشئت بالأصل من أجلهم، ثم انصرفت عنهم إلى غيرهم مستبقية صلة رمزية لا تقيم الأوَد ولا توفر لأبنائهم أي ضمانة للمستقبل، وبالتعليم.
هنا، على الأقل، يلتقي اللبنانيون واللاجئون الفلسطينيون في طلب الدولة القادرة والعادلة، فالخسارة مشتركة ومصدر الأمان واحد.
على الضفة الأخرى كان طبيعياً أن يسارع كثيرون إلى محاولة ادعاء أبوة هذا النصر الذي صُنع بالدم… وإذا كانت الانتهازية توفر العذر للقادة والساسة اللبنانيين فإن بعض الجهات الأجنبية قد حاولت مصادرة النصر المهرّب ومعه الجيش!
لنترك جانباً تصريح المنسق الأعلى للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا، الذي جاءنا بعد اطمئنانه، للمرة المئة، على أمن إسرائيل، فهو لم يقل أكثر من إننا، نحن الأوروبيين، سندعم الجيش وسنرى كيف نساعد على إعادة إعمار المخيم ومساعدة شعبه . ليأخذ وقته من أجل أن يرى!
أما تصريح السفير الأميركي جيفري فيلتمان فلا يمكن إهماله، خصوصاً وقد جعل نفسه شريكاً في النصر، بل وكاد يجعل من مساعدات إدارته العامل الحاسم في هذه الحرب التي قاتل فيها الجيش أهل الإرهاب بلحمه الحي!
يقول فيلتمان: إن بلادي بوصفها واحدة من شركاء لبنان الاستراتيجيين (وهذا تعبير جديد علينا!!) تفخر بكونها وفّرت الإمدادات للتدريب للجيش (سمعنا عنها بينما كان ضباطنا وجنودنا يستخدمون خبراتهم في ابتكار أنواع جديدة من الصواريخ المصنوعة يدوياً) بناء على طلب من الحكومة المنتخبة ديموقراطياً (.. وهذا تعبير طريف لا يستخدمه إلا الرئيس الأميركي جورج بوش وأركان إدارته بمن فيهم السفير الذي تلبنن أكثر مما يجب، إذ إن الحكومة في لبنان لا تنتخب ديموقراطياً، بل تشكل بالتوافق بين الكتل النيابية!!)… للمساعدة في مكافحة هذا التهديد الإرهابي.. .
مبروك للجيش، مرة أخرى، هذا النصر المهرّب ، والذي حاول مصادرته قناصة أطراف في السلطة التي لم يشتهر عنها حبها للجيش أو تسليمها بدوره، إما لأنها لا تؤمن بالدولة، وإما لأنها تريد دويلتها بديلاً منها.
… وحاول مصادرته أو قنصه أيضاً أطراف دوليون لم يتكرّموا عليه بطائرة أو بصاروخ أو حتى بالذخيرة اللازمة!
وعسى أن يكون هذا النصر لبنة في أسس الدولة الجديدة، خصوصاً أنه قد أعطى اللبنانيين قاعدة صلبة لوحدتهم، وهي قاعدة تمتد الآن من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال مروراً بالجبل والبقاع والأميرة بيروت.