من جنوب لبنان إلى شمال العراق يبدو التماثل فاقعù في مسلك كل من إسرائيل وتركيا.
فإسحق رابين يحاول تثبيت موقعه كزعيم تاريخي لإسرائيل بتقديم المزيد من جثث اللبنانيين وجماجمهم، مستهدفù بشكل خاص مجاهدي المقاومة الوطنية للاحتلال بقيادة »حزب ا”«،
من هنا فهو لا يتردّد في استخدام أسطول طيرانه الحربي، القاذفات والمطاردات الحامية والحوامات بالصواريخ ذات التسديد الألكتروني الدقيق، لكي يغتال مجاهدù واحدù مثل »أبو علي رضا ياسين«،
وبالمقابل لا تتردّد رئيسة وزراء تركيا، طانسو تشيللر، في تجريد أعظم حملة عسكرية في تاريخ بلادها الحديث، من أجل اغتيال قائد واحد أو بضعة عناصر من مقاتلي »حزب العمال الثوري الكردستاني« في شمال العراق،
ولأن المحتل من أراضي لبنان في جنوبه ساحة تدريب لجيش الدفاع الإسرائيلي، وأرض مشاع، يستطيع إسحق رابين أن يتصرّف فيه وكأنه »صاحب حق« بالسيادة، ويخاطب منه وزير الخارجية الأميركية طالبù إليه الضغط من أجل أن يمتنع المحتلة أرضهم عن مقاومة الاحتلال، وإلا فهي الحرب المفتوحة حتى الإبادة الشاملة،
ولأن »المنطقة الآمنة« التي أقامها »التحالف الدولي« بقيادته الأميركية في شمال العراق هي »مشاع« و»أرض فضاء« بلا صاحب، لأن مواطنيها العراقيين من الأكراد لا يريدون الانفصال عن وطنهم، فإن طانسو تشيللر تتصرّف هناك وكأنها »سلطة شرعية« تطارد متمردين خارجين على القانون، وتتوجه إلى واشنطن مطالبة بإقامة »قوة ردع دولية« تتكوَّن من الخمسين ألف جندي تركي مع قبعة زرقاء أممية وراية أميركية!
وحتى إشعار آخر سيظل »مكتوبù« على لبنان، وجبل عامل بالذات، أن يدفع من دمه ثمن الصراع بين إسحق رابين وبين بنيامين نتنياهو على زعامة إسرائيل المستقبل، أي إسرائيل »السلام مع الاحتلال«، وهي زعامة تتجاوز التاريخيين من أمثال بن غوريون وغولدا مائير وموشي دايان ومناحيم بيغن الخ..
كذلك فحتى إشعار آخر سيظل »مكتوبù« على العراق، لا سيما شماله، أن يدفع ثمن الطموحات وهوس المغامرات العسكرية التركية إلى التوسع بالاستناد إلى مزاعم تاريخية، لاستعادة ما تيسّر من أمجاد »السلطنة« التي قتلها أبناؤها، وبين ذلك ما يُعاد طرحه الآن من »حقوق تركية« في الموصل وكركوك و»حماية التركمان«، الذين زُرعوا ذات يوم هناك لحماية منابع النفط من أهلها العراقيين ثم صاروا عراقيين لهم في النفط ما لإخوانهم أو عليهم منه ما على سائر العراقيين… وما كان أشد البلاء!
* * *
من جنوب لبنان إلى شمال العراق يبدو التماثل فاقعù في مسلك كل من إسرائيل وتركيا.
وبغض النظر عن المشاعر القومية، فإن أبرز وجوه التماثل تتجسّد في محاولة حلّ المشكلات الداخلية المعقدة باللجوء إلى المبالغة في استخدام القوة ضد »عدو« مفترض أو متوهّم في الخارج.
إنها لعبة العاجزين القديمة إياها: يهربون من فشلهم في إيجاد حلول جدية ودائمة لمعضلات واقعهم الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي السياسي، إلى القوة العسكرية التي يمكن أن تدغدغ الشوفينية أو العصبية العرقية وتضفي على الحاكم هالة كاذبة من الجبروت، لكنها في واقع الأمر تتسبّب في كشف الإفلاس، وفي التسريع في عملية التغيير الداخلي وبمبرّرات داخلية سرعان ما يضاف إليها فشل المغامرة الخارجية.
لكن ثمة دماء تسفح شلالات في المسافة الفاصلة بين المقامرة المجنونة ونتائجها البائسة.
وهذه الدماء تبقى في الأرض راسمة حدودù جديدة للعلاقات بين الضحية وجلاده، الذي يجيء بذريعة تخليصه من »الإرهاب« الفردي فيمارس عليه إرهاب الدولة بأسلحة التدمير الشامل، بغير ما تدقيق بين »المطلوب« أو »المشبوه« وبين »البريء« والذي يعجزه فقره وتعلّقه بأرضه عن الفرار من جهنم »التحرير« هذه!
والأمر في لبنان أوضح من أن يحتاج إلى شروح:
إن إسرائيل تريد »وقتù إضافيù« للقضاء نهائيù وبمساعدة عرفات على الانتفاضة داخل فلسطين المحتلة، وعلى احتمالات نسف اتفاق الاذعان الذي ذهب أو كاد بآخر الحقوق المشروعة للفلسطينيين في أرضهم،
.. وهو الوقت الذي يحتاجه رابين لكي يختاره الإسرائيليون بالاقتراع المباشر زعيمù للمشروع الأمبراطوري (الشرق الأوسط الجديد) ومن موقع بطل السلام والحرب معù.
إذù فلا بدّ من أن تظل النار مشتعلة في جنوب لبنان للضغط على اللبنانيين ومحاولة ابتزازهم مع السوريين، واستدراج المزيد من التبني الأميركي لمشروعه السياسي وبوصفه »الحليف الاستراتيجي« بخلاف »الليكود« المتطرّف!!
إنه يحتاج جثث المزيد من اللبنانيين لصناديق الاقتراع الإسرائيلية!
* * *
مع تركيا يختلف الأمر قليلاً، وإن كان السلوكان الإسرائيلي والتركي يتقاطعان في نقاط عديدة.
وكأي إرث تاريخي مشترك ومعقد، فإن للعلاقات العربية التركية قراءتين مختلفتين تمامù من وراء ضفتي »الحدود«، وفي القراءتين نبرة عداء، مهما حسنت النوايا.
ومن دون تقصّد التوغل في ماضي العلاقات في ظل »الأمبراطورية العثمانية« التي حملت في البدايات راية الإسلام وأوصلتها النهايات الى الخروج من الإسلام الى العلمانية الغربية، فإن تركيا ليست هي »العدو« تمامù ولكنها ليست »الأخ« أو حتى »الصديق« تمامù.
إنها دائمù في موضع ملتبس يصعب معه الحديث عن »علاقات طبيعية«.
وكلما نجح المواطن العربي في إقناع نفسه أن تركيا ليست، ولا يجوز ان يراها في مواقع إسرائيل، فاجأه وربما فجعه سلوك الحاكمين الأتراك وأجبره على إعادة النظر في موقفه »العاطفي«.
وباختصار فليست تركيا إسرائيل في نظر العرب إلا بقدر ما يأخذها حكامها من موقع الشريك في التاريخ والتراث والوجدان(؟!) والمصالح، الى موقع العدو… حاضرù ومستقبلا!
على أن كلا من هاتين الدولتين القويتين تعيش أزمة داخلية معقدة، تتجاوز التفاصيل السياسية لتطرح طبيعة الكيان ودوره وعلاقته بمحيطه.
ومع الفوارق البديهية في التكوين، وهي عديدة، فإن تركيا دولة »من« المنطقة، ليست طارئة عليها، في حين أن اسرائيل دولة »في« المنطقة لا تطمس قوتها هجانتها وغربتها عن محيطها، مهما طال الزمن.
وليس التاريخ كتلة صماء تؤخذ كلها أو تترك كلها، ولكنه سياق متصل لسياسات مختلفة تحاكم من خلال نتائجها الباقية في الأرض والناس.
ومشكلة تركيا انها دولة في الشرق مرفوضة من الغرب و»محرومة« من الانتماء إليه ولو بالالتحاق، وانها في الوقت نفسه ترفض أن تكون مجرد دولة في الشرق ومنه ولو في موقع »القطب« والدولة الأولى والأهم والأقوى.
لا »علمانيتها« نفعتها في تزوير هويتها، ولا تطوعها لأن تكون بتاريخها الإسلامي الطويل قلعة حصينة لحراسة الغرب من الشيوعية ورياح التغيير التي عصفت بالكون في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
على العكس تمامù هي مشكلة إسرائيل:
إنها دولة غربية في الشرق، وهي مرفوضة الآن وستظل مرفوضة من الشرق مهما قهرته وأذلّت شعوبه (التي تنتمي اليهم أكثرية سكانها الشرقيين!!)، ولذلك فهي تحاول تغريب الشرق كله لتكون السيدة الغربية فيه،
ومشكلات تركيا الحقيقية في داخلها، والحلول كذلك،
أما مشكلات إسرائيل ففي هويتها، وبالتالي فلا مجال لحلها في الخارج،
وفي انتظار توفّر الحلول للحكّام في كل من أنقرة وتل أبيب سيظل مقدرù على الدول العربية أن تدفع الثمن من دماء أهلها، عربù وكردù،
مع تميّز خاص لهؤلاء الأخوة البائسين من الأكراد، فهم في الشقاء نموذج فذ ندر مثله في التاريخ الإنساني على امتداده.