ها هي فلسطين تؤكد، مرة أخرى، صورتها الأصلية: شهداء من بين »من ينتظر« يشيّعون شهداء سبقوا إلى تأكيد هوية أرضهم بدمائهم، وتؤكد أيضا أن الدم قد يعوّض النقص في كفاءة قيادتها السياسية، وزخم الروح النضالية قد يلجم الميل إلى الرضا بالمعروض، اليوم، والرغبة في مجاملة »الأصدقاء الكبار« حتى لا نخسر تأييدهم فتخسر القضية!
وها هي إسرائيل تؤكد، مرة أخرى، صورتها الأصلية: دولة الحرب، عندها من الصواريخ والمدافع أكثر مما تحتاج السياسة، وعندها من الطائرات والرؤوس النووية أكثر مما يحتاج »السلام«، وعندها من الدعم الدولي أكثر مما يلزمها لمنع قيام الدولة الفلسطينية!
ها هي فلسطين تستعيد، عبر المواجهة المفتوحة، وحدتها »الملغاة« بسور الموت وأسلاك التقسيم القسري لشعبها بين »عرب الداخل« و»لاجئي الخارج« و»فلسطينيي السلطة«، فإذا الكل في الميدان وقد جمعهم عبر الحرم الشريف الإيمان بالوطن، والانتماء إلى الأرض المقدسة.
سحبت من التداول، ولو مؤقتا، صور اللقاءات الليلية المحروسة جيدا على الحدود الفاصلة بين حكم باراك المهزوز وبين سلطة عرفات الذاتية جدا، وكذلك صور »الخلوات« الحميمة في منعرجات المنتجع الصيفي »كامب ديفيد«، والاتفاقات الجانبية، والمفاوضات غير الرسمية على المفاوضات الرسمية في بعض الفنادق الحسنة التمويه أو في كواليس الخارجية الأميركية التي تعج »بالجواسيس«.
هي الحرب، إذن، مرة أخرى، وهي إسرائيلية قطعاً.
لم يعد لدى المحتل ما يقوله أو ما يقدمه غير تأكيد واقعه: أنه يحكم شعبا آخر بالقوة، يحتل أرضا لا تخصه بالقوة، وهو يجلو أو يبقى بحسب ما يواجه احتلاله من استكانة أو رفض يعبّر عن نفسه بالحجر ثم يرتفع إلى مستوى الدم في مواجهة السيف.
وليس لدى الفلسطيني، منذ اليوم الأول، غير دمه: يرمي به إسرائيل كلها، يحاول به أن يفجر الصراعات داخل المعسكرات والأحزاب السياسية والدينية والعلمانية وصولاً الى الكنيست (والنواب »العرب« فيه)… والانتخابات المبكرة والحكومة الجديدة ولمن تكون الزعامة!
لقد أزاح، هذا الفلسطيني، بدمه عددا من حكومات القتلة.
ولفترة، أعانه شقيقه اللبناني بدمه فأزاح عددا آخر من حكومات القتلة أبطال المجازر، متكئاً على دعم مفتوح قدمه شقيقه السوري بغير حدود.
تناوب السفاحون على السلطة التي لا تبدل أسلوبها مع »الأغيار«!
لم يذهب الدم اللبناني هدراً. لقد أعطى فلسطين ما أكد إيمانها بأنها ليست وحدها. كذلك أكد فيها إيمانها وزخَّم روح الفداء.
وأثبت دم الشهادة أنه قادر على أن يحجب الخلافات التفصيلية بين السلطة وبين الناس في الداخل، وعلى أن يفضح تجار المناسبات المتاجرين بالحساسيات الطائفية والمذهبية فيلجمهم ويحد من حركتهم إن هم لم يعودوا إلى جادة الصواب وتصويب السلاح في اتجاه العدو الوحيد بدلاً من فتح معارك جانبية بالاستناد ضمناً الى تأييده أو أقله إلى مجرد وجوده.
ونحمد الله على أن أخوتنا في فلسطين لم يقتبسوا من التجربة اللبنانية إلا ما ينفعهم في جهادهم لتحرير أرضهم والإرادة، تاركين لنا أن نتسلى بحروب المرجعيات الطائفية والزعامات المذهبية على »التحرير«!
فبعض جاهد وما زال يجاهد لإعادة الأرض إلى الوطن بهويته العربية الثابتة.
والبعض الآخر يحاول بعدما أكمل غيره »التحرير« تجاوز الوطن عائدا إلى »الكيان« ذي التابعية الكوزموبوليتية الكونية حيث تصير العروبة عبئا ثقيلا!
كذلك نحمد الله على أن الأخوة الفلسطينيين لم يجدوا الوطن خارج الدين، ولم يجدوا الدين متناقضا مع الوطن، فغطوا بأجداث الشهداء وجراح الأطفال الأرض المقدسة جميعا بهضابها والجبال، بقراها ومدنها: رفح وغزة ورام الله وكفركنا والحصيرة الشمالية ونابلس وأم الفحم والخليل والقدس وحرمها المقدس.
ومع أن الوقت ليس مناسبا للعتاب، لكن على اللبنانيين تحديدا أن يحسنوا قراءة ما يجري في فلسطين: فهي تستعيد وحدتها عبر الجهاد ضد العدو… أما نحن فنكاد نستهلك نصر التحرير، بكل ما بذل من أجله وفي سبيله من دماء غالية في الاشتباكات المفتعلة توقيتا واستهدافا حول حقوق الطوائف ومواقع المذاهب في السلطة، وحول صلاحيات المرجعيات غير الزمنية في صنع زماننا (من دون أن ننسى الحصص في الحكومة المقبلة والتي قد تستدعي ولادتها شق البطون بعد شق الجيوب)!
ليس الاحتلال الإسرائيلي مجرد »عسكر احتلال« نستعيد حريتنا بمجرد جلائه عن أرضنا.
إسرائيل هي مشروع احتلال للمنطقة برمتها، وخطة هيمنة على هذا »المشرق« بكامله من البحر إلى البحر..
وهي »كانت« في لبنان من قبل أن يدخل جيشها محتلاً.
وهي ما زالت في لبنان برغم خروج جيشها مهرولاً ومهزوماً تحت ضربات المجاهدين الذين بقوا، ويجب أن يبقوا، على سلاحهم حتى لا تظل الطريق مفتوحة أمام »شبكاتها« العاملة بيننا حتى لو كان جيشها خارج أرضنا.
وإنها لمصادفة قدرية طيبة أن يكون الرئيس السوري بشار الأسد في القاهرة اليوم، والتي اختارها بدقة وبنجاح، لتكون محطة التحرك الخارجي الأول له.
إن لقاء القاهرة دمشق بشرى خير لفلسطين (وللبنان وسائر الأقطار العربية) بغض النظر عن نتائجه العملية.
لقد عز اللقاء في ما بين العرب، وصارت »الوحشة« والإحساس المر بالتخلي ثابتين في النفس العربية يهونان من شأن الهزيمة ويبرران منطقها القدري.
ومؤكد أن الأخوة في فلسطين سيفرحون بهذا اللقاء، مع وعيهم بأنه »الأول«، أي بأنه خطوة أولى على طريق طويلة، لكنها واضحة المعالم لمن أراد أو يريد الوصول إلى الهدف السامي.