طلال سلمان

من فلسطين الى عراق احتلال يحمي نفسة فتنة

يكتسب السقوط المهيب لمحمود عباس قدراً من الرمزية وهو يتزامن مع الذكرى العاشرة لاتفاق أوسلو الذي طالما تباهى »أبو مازن« أنه »مهندسه« من الطرف الفلسطيني.
وليس من المبالغة أن تعتبر لحظة سقوط عباس بمثابة نقطة النهاية لهذا الاتفاق الذي ثبت أن التباساته المعقدة وألغامه المختزنة في نصوصه الغامضة قابلة للتفجير في أي لحظة يشعر فيها الاحتلال الإسرائيلي بأنه قد تخفف من الضغوط الدولية التي أجبرته إلى جانب أزمته الداخلية على قبوله باعتباره الحد الأدنى الذي يمكن أن يقبل به الفلسطينيون.
والحقيقة أن محمود عباس هو آخر »شهداء« اتفاق أوسلو (الذي مُهر أيضا ببعض الدم اللبناني حتى لا ننسى ضحايا المواجهة العبثية التي »نُظمت« يومذاك عند جسر المطار).
أما أول من دفع الثمن فكان صاحب التوقيع الإسرائيلي عليه: اسحق رابين، الذي أسقطه رصاص التطرف في تل أبيب بينما أسقطت الخيبة صاحب التوقيع الإسرائيلي الثاني شيمون بيريز.
على أن الحقيقة التاريخية التي لم يعد من مجال لإنكارها فهي أن الحركة الوطنية الفلسطينية كانت أقله في ضوء النتائج الضحية الأعظم والأسمى لهذا الاتفاق الذي حول رجال »المقاومة« إلى شرطة لسلطة لا تملك من أمرها شيئا، سرعان ما انشغلت بنفسها عن قضيتها، بينما تخلى عنها رعاتها الأوروبيون، والمحتفلون بإنجازها في حديقة الورود في خلفية البيت الأبيض في واشنطن، والتي كان فيها »النظام العربي« أقرب ما يكون إلى »شاهد الزور«.
فمع »الدخول إلى الأرض«، والتحول إلى »سلطة« انفض تدريجيا الحشد الدولي الممتاز الذي كان يساند »منظمة التحرير الفلسطينية«، خصوصا وقد أسكرت العودة »القيادة« فصارت تتوسط لدى أصدقائها المخلصين أن يعيدوا العلاقات مع إسرائيل، لعلهم بذلك يدعمون »الاتفاق« الذي افترضت أنه طريقها إلى »الدولة المستقلة« و»سلام الشجعان« مع العدو التاريخي الذي تخلى الآن عن نزعته التوسعية التي تتجاوز حدود فلسطين.
ان »السلطة« تجد نفسها الآن في نفق مظلم: شعبها مهدد بالابادة، وحلم الدولة معلق »برؤيا« جورج بوش الذي يساند السفاح الاسرائيلي ارييل شارون، بل يحرضه، فيصدر اوامره بتصفية كل منظمة فلسطينية اضطرت الى حمل السلاح للدفاع عن شعبها، ويمارس ضغوطاَ هائلة على الاوروبيين ليلتزموا بقرار تصنيف »حماس« و»الجهاد الاسلامي« منظمات ارهابية، ويفرض »الحظر« على ياسر عرفات بعدما عصى امره فقبل استقالة محمود عباس.
ان الادارة الاميركية تجهر بكونها باتت شريكاً مباشراً في قرار القتل العمد للقيادات الفلسطينية، وكل ما فعلته يوم السبت الماضي انها »توسطت« عند شارون لكي لا يستخدم القنابل زنة طن في غارته التي استهدف بها تصفية القيادة السياسيسة لحركة »حماس«، فوافق مضطراً واكتفى بقذيفة زنة ربع طن، حتى لا يقتل من المدنيين ما قد يستفز الرأي العام العالمي فيحرج واشنطن، الغارقة في الدم العراقي، فتتبدى الصورة وكأن الادارة الاميركية والحكومة الاسرائيلية تخوضان حرباً مشتركة ضد كل العرب، بتواطؤ اوروبي مكشوف لا يستطيع الغرب تحمل تبعاته الثقيلة.
وليست مصادفة ان الحاكم بقوة الاحتلال الاميركي هو من عين »مجلس الحكم الانتقالي« في بغداد، ثم استولد منه الحكومة البلا رأس وبلا وزير دفاع (وبالتالي بلا جيش) وبلا وزير إعلام وبلا موازنة، والأهم بلا شرعية دستورية (او انقلابية) تسوّغ لدول العالم (بدءاً بمجلس الامن الدولي) الاعتراف بها…
مع ذلك يراد فرض هذه الحكومة كممثل شرعي ووحيد لشعب العراق على جامعة الدول العربية، بعدما نجحت الضغوط في »انتزاع« اعتراف من لا تحتاج الى جهد من دول الخليج العربي للإقرار بشرعية القرار الاميركي!
كل ذلك يجري وسط ضياع رسمي عربي كثيراً ما اتخذ طابعاً مهيناً لكرامة الانسان العربي في كل ارضه: لقد عاد العرب الى ما دون الاستعمار المباشر، يفرض عليهم الاحتلال حكامهم الادوات، في حين يحتفظ لنفسه بالقرار في ما يخص الكيان السياسي، والحدود، و»تصنيف« الشعب عبر اعادته الى مكوناته الاولى (الاعراق والطوائف والمذاهب) وتوزيع المناصب عليها بما يضمن توفير المناخ الملائم لتفجير الحرب الأهلية، في أي وقت…
وها هو الاحتلال الإسرائيلي يعمل بدأب لإشغال الفلسطينيين بأنفسهم، وهو كاد ينجح قبل أيام في اختلاق مواجهة بين السلطة وبين المنظمات القائلة بالمقاومة المسلحة (بمن فيها فتح)… وإذا كان الاحساس بأن الخطر يتهدد الجميع (إضافة إلى وطنية هذا الشعب المجاهد) قد عصم الفلسطينيين من خطر الفتنة بالأمس، فإن هذا الخطر ما زال يتربص به غداً، نتيجة التخلي العربي عنه، ونتيجة الضغوط القاسية على سلطته، والتي يشارك فيها بعض النظام العربي، بذريعة إلزامه بخريطة الطريق التي نسفتها

حكومة شارون وهي »رؤيا« وقبل ان تعرف طريقها إلى التنفيذ… ولو على شكل »خطوة خطوة«!
كذلك فان الجهود الأميركية الإسرائيلية المشتركة تتواصل لإحداث فتنة في العراق، بتحويل ارتكابات الاحتلال أو وجوه قصوره في حفظ الأمن وحماية ارواح العراقيين ومؤسساتهم، إلى اقتتال بين طوائفه، مستخدماً كل الذرائع المهيجة من شبح صدام حسين إلى شبح بن لادن إلى شبح الإخلال بالتوازن الطائفي وإضفاء »غلبة شيعية« على النظام البديل!
إن أرييل شارون قد أعلنها بالأمس صريحة: اما نحن واما هم! هذا هو الوضع، ويجب الاعتراف بذلك. انهم أبناء موت. لن نترك لهم الراحة وسنواصل مطاردتهم…
وهو بعد ان شارك في احتفاله بعيد ميلاده نجله الأخير ابن السنوات الست، وثم، أصدر أوامره بالغارة على غزة، كمقدمة لحرب استئصال »حماس« بسياسييها وعسكرييها، وهو يعرف تماماً ان ذلك الشريط البحري الضيق سيتحول إلى بركة من الدماء، إذ لا مجال لهؤلاء المحاصرين من البر والبحر والجو، والذين لا يملكون الا دماءهم كوسيلة للمقاومة سيقاتلون بغريزة البقاء حتى الرمق الأخير.
* * *
ان »الوقائع العربية« مفجعة…
أما في بلدنا الجميل فإن »لبنان الرسمي« يبدو مشغولاً بصراعاته على القمة عن كل ما يجري من احداث خطيرة تنذر بإعادة رسم خريطة المنطقة العربية جميعاً.
إن هذا اللبنان الرسمي الذي تستهلكه الصراعات الرئاسية يبدو مشغولا بنفسه حتى عن التطورات والتحولات التي تجري في »الشارع« من حوله، وهي التي تجاوزت كونها أصوات اعتراض على هذا أو ذاك من رموز السلطة، وعلى هذا أو ذاك من قرارات السلطة، لتنذر بانشقاقات جدية في قلب المجتمع، مرشحة للتفاقم »السلمي« بما يحول البلد الصغير إن لم يكن قد حوله إلى كانتونات طائفية متصلة بالضرورة، ولكنها في العمق تعاني من »حالة انفصالية« حادة.
خلال شهر واحد يمكن إحصاء مجموعة من المهرجانات واللقاءات ذات الطابع الشعبي، لكل مهرجان منها »لغته« و»تعابيره الخاصة«، وأسباب تذمره أو مطالباته التي ينفرد بها أو ينفصل بها عن »الآخرين«، وإن كان الجميع يتلاقون على لوم »الدولة« التي يغيبها انشقاق السلطة على ذاتها، ويعطلها اندفاع أطرافها في »حرب إلغاء« بعضهم بعضا، بما يعطل المحاسبة ويلغي المؤسسات ويشل دور القضاء: من يحاسب من إذا كان المدعي رئيساً ضد رئيس؟!
إن المنطقة في خطر داهم… وقمة السلطة في لبنان مشغولة بخلافاتها.
فهل يمكن التوسط من أجل هدنة رئاسية تسمح للبنانيين بأن يحافظوا على هذا الوضع الرديء الذي هم فيه، بينما رياح سموم الاحتلال الأميركي الإسرائيلي تعصف في المنطقة مهددة الجميع بأخطار جدية على الوجود والمصير؟!

Exit mobile version