طلال سلمان

من يشوة صور لبنان لبنانيين

حيثما ذهبت يواجهك السؤال الذي يطاردك في بيروت: ماذا جرى للبنان وماذا يجري فيه؟!
وغالباً ما كان السائل يتجه إلى اللبنانيين باللوم: لبنان أمانة في أعناقكم، إنه ليس لكم وحدكم، إنه ضرورة للعرب، كما هو صاحب دور في تصحيح صورتهم عالمياً. فاحفظوه!
} في ندوة حول »المستقبل العربي« عُقدت في »أبو ظبي« كان العديد من المشاركين يمسك بزملائه اللبنانيين فيقرّعهم: لقد أضعتم علينا لبنان. لقد سقط الاستثناء فبتّم مثلنا. لعلكم لم تكونوا تقدّرون أهمية بلادكم، فعبثتم بها بعد الحرب وما زلتم تعبثون بها فتضيّعون ما تبقّى من رصيد لبنان، بينما كنا ننتظره بفارغ الصبر ليستعيدنا ونستعيده.
} في لقاءات ذات طابع اجتماعي مع نخب مثقفة ورجال أعمال سعوديين في الرياض تركزت الأسئلة الناضحة باللوم على الارتباك الذي يسود الوضع الاقتصادي فيفاقم الأزمة الاجتماعية: لماذا هذا الغلاء الفاحش في لبنان؟! لماذا هذا الارتفاع غير المعقول في أسعار العقارات؟! تطلبون استثمارات ومستثمرين، ثم لا نسمع من مسؤوليكم إلا حملات تشهير متبادلة بخراب الذمة والفساد؟! في صحفكم، في إذاعاتكم المرئية التي تصلنا لا نسمع كلمة واحدة مطمئنة! نرى مشاهد تؤكد عشقكم للحياة. نتفرّج على رجالكم ونسائكم وشبابكم يرقصون في المطاعم وأمامهم موائد حافلة بأصناف المآكل الشهية والشراب… وفي برامجكم المحلية تتهادى السيارات الفخمة، ويمارس الشباب الحب في شقق باهظة التكاليف. ما هذا؟! كأن ليس بينكم بريء، يستوي في ذلك الرؤساء والوزراء، النواب والمديرون، القطاع العام والقطاع الخاص! هل كل اللبنانيين فاسدون مفسدون؟! هل كلهم »حرامية« همّهم الأول نصب المال العام وإفقار الشعب؟!
} في روما، حيث نظمت مجموعة نواب أحزاب الاشتراكية الأوروبية في البرلمان الأوروبي، وبدور متميّز للحزب الديموقراطي اليساري (الشيوعي)، ندوة فكرية سمعت من بعض مَن كانوا ضمن الوفد الذي جاء إلى بيروت، قبل ثلاثة أسابيع، مع رئيس جمهورية إيطاليا انتقاداً مفاده: حتى في المآدب الرسمية المكلفة كنا نسمع ومن مسؤولين كبار همسات تتهم زملاء لهم في الحكم، وأحياناً على الطاولة نفسها، بخراب الذمة. بصراحة لقد عدنا بانطباع بائس مفاده أن في لبنان سلطة غنية، بل باذخة، وشعباً فقيراً مع أنه يرفض الاعتراف بواقع فقره. أنتم لا تعيشون بحسب إمكاناتكم، ونحن الطليان الذين طالما عانينا وما زلنا نعاني من فساد أهل الحكم والطبقة السياسية عموماً، وكذلك أهل المال والأعمال، ندرك خطورة المأزق الذي تعيشه بلادكم. الفارق أن لدينا مؤسسات سياسية ونقابية تقوم بدور فائق الأهمية، كذلك لدينا قضاة متميزون بنزاهتهم، وبفضل هؤلاء جميعاً نحاول وقف التدهور وننجح أحياناً في إنقاذ البلاد. أما أنتم فلكم الله، لقد عدت شخصياً بانطباع أن الفساد عام، وأنا هنا أبدي رأيي الشخصي، ويهمني أن تتعزز الصداقة مع بلدينا وخصوصاً أن إيطاليا هي الدولة الأولى في التعامل التجاري مع لبنان. أنتم تستوردون منا أكثر مما تستوردون من فرنسا… لكنني كنت أريد أن أقول رأيي الشخصي، لأنني »مقهور« على لبنان الذي أحبه!
وعلى هامش الندوة الفكرية الطابع والتي كان عنوانها »أن نفهم الإسلام: أوروبا بين الحوار والمواجهة«، لامس عدد من المشاركين وفيهم أساتذة جامعات ودارسون محترمون الدور الخاص للبنان كتجربة ناجحة، وكدور لا يستغنى عنه في أي علاقة مستقبلية بين أوروبا والعالم العربي الذي تدين أكثرية أبنائه بالإسلام…
على هامش الندوة كان المشاركون، العرب أو الطلاينة أو الآتون من جامعات أميركية وفرنسية وبريطانية، يمسكون بزملائهم اللبنانيين ليسألوهم بقلق عما يجري في لبنان ولماذا تتعثر انطلاقته وعودته إلى دوره.
سأل بعضهم عن »الرأسمالية المتوحشة«، وعن آثار غياب الأحزاب والنقابات وضعفها وتفكّكها على مجمل الوضع القائم،
سأل آخرون عن »السر« في غياب الرقابة والمحاسبة برغم وجود مؤسسات يفترض أنها تجسّد الديموقراطية وتحمي النظام، كالمجلس النيابي، وهيئات الرقابة الإدارية، والقضاء،
وقال أستاذ جامعة فرنسي يعرف لبنان وقد عاش فيه فترة: أصارحك القول إنكم لستم بحاجة إلى أعداء! إن كبار مسؤوليكم هم الذين يشوِّهون صورة بلادكم، وهم يشوِّهونها مرتين، أولاً بممارساتهم غير المقبولة، ثم بكلامهم التشهيري بعضهم بالبعض الآخر، وإجمالاً بالادارة والمؤسسات.
قال أستاذ جامعة أميركي: بحدود متابعتي أكاد أصل إلى اقتناع بأن اللبنانيين محكومون من طرف مجموعة »مافيات«، وأحياناً يداخلني الشك في شعب لبنان نفسه فهو إما مجموعات من اللصوص وإما أنه يرى الخطأ ويسكت عليه.
عاد الأستاذ الفرنسي يأخذ زمام الكلام فقال: حتى جامعاتكم أخضعت كما يجتاح مجتمعكم من مفاسد. اننا نسمع عن علاقة مشبوهة بين بعض الجامعات والزعامات الطائفية، التي تتحكّم أحياناً بما لا يجوز التدخل فيه مما يمس بالسمعة الأكاديمية للجامعات.
أما أحد الظرفاء من المشاركين المصريين فقد قال: كنا نتمنى أن نصير مثلكم فصرتم مثلنا بل وتفوقتم علينا!! الخطير أن الشبهة تلحق بكل من وما في لبنان، ليس أهل الحكم فقط، بل أيضاً المؤسسات والشركات الخاصة. كانت الدولة دائماً ضعيفة في لبنان، لكن قطاعه الخاص كان حسن السمعة.. الآن تبدو هذه السمعة مهددة، وهذا أخطر ما يمكن أن يصيب لبنان. كنتم عنوان النجاح، فلماذا تزاحموننا على الفشل؟! إننا نسمع ونقرأ عن فضائح تهدد سمعة مؤسسات كانت محترمة! هل بات ممنوعاً أن يكون في بلادنا مَن هو محترم، سواء في الحكم أم في الأعمال الحرة؟!
في بيروت، جلست إلى الصحف التي منعني الغياب من متابعتها يومياً، فأصبت بشيء من الذعر، ربما لأنني واجهت التفاصيل مجتمعة.
من خلال العناوين يمكن، ببساطة، الاستنتاج:
}} إن الحكم يتهم نفسه بسوء الإدارة، ويعترف بأنه قد فشل، ولكنه في الوقت نفسه يصادر العهد المقبل أو يلغي فرصة نجاحه المحتمل إذ يحيل إليه مجموع ما أخطأ أو قصّر فيه، والنتائج المريعة للارتكابات التي اتهم بها أطرافه أو الملتحقون بهم (رشى، هدر، صفقات، مخالفات دستورية، خرق للقوانين، محسوبية وطائفية ومذهبية تتجلى أكثر ما تتجلى في التعيينات…).
}} ان الحكم يغرق القضاء في كثير من المسائل التي كان من واجبه أن يحسمها، بحكم مسؤوليته العامة، وأنه يدعي الآن استنقاذ دور لهيئات الرقابة الإدارية التي كان يعطل دورها على امتداد السنوات الأخيرة، فكأنه يريد أن يشرك الجميع في المسؤولية فلا يتبقى بريء أو مرجع صالح للبت في أي مخالفة أو جناية أو صفقة مشبوهة.
}} إن الاتهام بالفساد يشمل مختلف المؤسسات في القطاع العام أو شبه العام (الهاتف، الكهرباء، شركة أنترا، كازينو لبنان، طيران الشرق الأوسط، مجلس الجنوب، صندوق المهجرين، مجلس الإنماء والإعمار، مجلس تنفيذ المشاريع الكبرى إلخ).
}} إن الحكم بدا ويبدو كأنه معاد لفكرة الانتخابات، أي انتخابات، نقابية أو مهنية، بلدية أو نيابية، وأكثر ما يسعده فيريحه هو »التزكية« التي لا تعني إلا المزيد من الصفقات بين أطرافه والقوى النافذة.
}} ان أخطر الاتهامات للبنانيين (ابتداء بالكسل مروراً بالفساد والتبطل والتحايل على الضريبة وسرقة المال العام) قد صدرت عن الحكم مجتمعاً أو من كل من أطرافه على حدة.
}} ان المداخلات السياسية تمنع القضاء من ممارسة دوره الطبيعي في حماية المجتمع و.. الدولة!
}} إن مجلس النواب »ضيف شرف« أو شاهد أخرس على ما يجري، والنواب يقولون خارجه ما لا يقولونه داخله، ولا يمارسون دورهم كرقيب ناهيك بمحاسبة السلطة التنفيذية.
بعد هذا تتوالد الأسئلة الطريفة: كيف لا يأتي مستثمر طبيعي لتوظيف بعض ماله في لبنان، ثم تنهال علينا القروض بمئات الملايين من الدولارات؟! كيف تكون ليرتنا بهذه المنعة بحيث تحقق كل يوم انتصاراً جديداً على الدولار في حين يلحق الدولار الهزائم الشنيعة والمتوالية بعملات أقوى دول الأرض اقتصادياً؟!
والأخطر من ذلك كله: كيف بمثل هذه الأوضاع المتردية يمكن للبنان أن يخوض أو أن يشارك في خوض معركة سياسية ناجحة مع عدو شرس كإسرائيل، لا سيما في ظل حكم التطرف بقيادة نتنياهو؟!
والسؤال السياسي هو الأخطر، على وجاهة الأسئلة ذات الصلة بالاقتصاد أو بالأوضاع الاجتماعية لبلد يبدو الآن كأنه أبأس حالاً مما كان في أي يوم: فبعض الجيش في البقاع لمواجهة »ثورة الجياع« بعيداً عن جبهته الأصلية، بينما كان يمكن توفير التعويضات التي تدفع لجنوده المستنفرين الآن، لانعاش تلك المنطقة التي يبدو كأن البؤس قدرها، كائناً من كان الحاكم، وكائنة ما كانت الإمكانات،
ألم يكن الأجدى إعلان البقاع (وعكار) »منطقة منكوبة« بدلاً من إعلانها »منطقة عسكرية«؟
ولننتظر مع صباح الغد، أخبار الفضيحة الجديدة.
عشتم وعاش لبنان.

Exit mobile version