طلال سلمان

من بيروت الى صنعاء ما بعد حرب اهلية

يسبقك اليمني بالسؤال: وكيف لبنان؟ هل خرج حقيقة من الحرب الأهلية؟ هل عاد بنوه إلى التواصل واستعادوا الإلفة وروح الأخوة؟!
وتشعر بأن هواجسه تنطلق على شكل أسئلة، وأنه إنما يحاول تطمين نفسه من خلال أجوبتك التي قد تريحه إلى مستقبله اليمني.
اليمن »أعرق« صلة بالحروب الأهلية وأعظم معاناة من أطوارها »العربية« و»الدولية« والتي قد تتخذ لبوس القبلية تارة والمذهبية طورù، والتي قد تستخدم الجيش كما قد تحاول احتواء الرئيس والرئاسة، الأحزاب والنواب، المشايخ والقضاة والرعية الخ..
وصنعاء المعتزة الآن بتمكنها من استعادة وحدة اليمن، تدرك أن النصر ثقيل الوطأة عليها ومكلف جدù إذا ما هي تباهت به واتخذت منه سياسة وقاعدة للتعامل مع »الإخوة الأعداء« في الخارج الذين ساندوا بكل قوتهم »الإخوة الأعداء« في الداخل ورعوا حركتهم الانفصالية بالمال والسلاح والتحريض ومحاولة تأمين الغطاء السياسي، عربيù ودوليù.
ولأن »الحكمة يمانية«، تختفي من الخطاب السياسي الرسمي التعابير الحادة والتصنيفات القاسية، ويُغلَّف الحديث عن السعودية مثلاً بالتمنيات والرغبة في علاقات طبيعية »مع الأشقاء عمومù، ومع المملكة بالذات التي تشدنا إليها روابط العروبة والدين والمصالح المشتركة والجوار الذي نريده نموذجù للتعاون الصادق«…
لا أحد ينكر أن الواقع غير التمني، وأن العلاقات مع المملكة ليست في أحسن حالاتها، برغم »إنجاز« مذكرة التفاهم التي فتحت الباب لتسوية العلاقات المأزومة باستمرار بين مملكة الذهب الأسود وجمهورية الثوار الفقراء.
الذهب… تلك هي المسألة!
بالذهب حاولت المملكة، بداية، تصفية الثورة والجمهورية، فلما عجزت عن الأمرين معù حاولت مستعينة بالمشايخ والقضاة عقد صفقة محددة: التسليم بالجمهورية مقابل إنهاء العهد الثوري وشعاراته الوهّاجة.
وبالذهب اشترت المملكة »يتامى الاشتراكية الدولية« في عدن، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والنظام الشيوعي: في البداية لكي تأمن »شرهم«، وفي النهاية لكي تتخلص من كابوس يمن موحّد وقوي وعفي، له من تاريخه ما يجعله يطمح إلى دور أساس في الجزيرة والخليج، خصوصù بعدما شعشعت في بعض أطرافه تباشير النفط.
آهٍ من الذهب… فها هو الفقر يتهدّد »جمهورية الوحدة المجددة«، ويضعف وهج نصرها التاريخي، ويملأ بيوت اليمنيين بالهواجس والقلق على لقمة العيش:
بكم الدولار في بيروت؟! كم سعره بالليرة الآن؟!
وحين تذكر الرقم الذي يعرفه صاحب السؤال، تختلط في ملامحه علامات الطمأنينة مع دلائل الذعر: نحن ما زلنا بخير، إذاً، لكن احتمالات التردي ما تزال قائمة… وأصحاب الذهب هم القادرون على تسريع وتيرة الانهيار!
تتوغل في التفاصيل، فإذا هي هي مصادر القلق اليمني: لا مساعدات، لا هبات، فالأشقاء الأغنياء في غير وارد المساعدة، وأقصى الطموح أن تأمن شرهم فيتوقفوا عن التخريب واستغلال الفساد القائم في السلطة وفي الشارع لتحطيم الليرة/الريال بالمضاربة المفتوحة، ومن ضمن أساليبها تهريب أطنان الليرات/الريالات الى الخارج لاستخدامها ضمن خطة في المضاربة وكسر التوازن كلما تمكّنت الدولة من تحقيقه أو اقتربت من هذا الهدف، بإمكاناتها المحدودة!
والمغتربون العائدون أو المعادون من المملكة خصوصù (أكثر من مليون يمني)، ومن سائر أقطار الذهب الأسود؟!
مَن يملك منهم المال أبقى ماله في الخارج، أما الغالبية الساحقة فهم من العمال والأجراء والحرفيين، وقد كانوا وهم هناك مصدرù للعملة الصعبة يعينون بها أهلهم، ولكنهم الآن تحوّلوا إلى عبء مضاعف: فقدوا دخولهم وجاؤوا يزاحمون إخوتهم الفقراء حيث لا عمل!
وماذا عن المصالحة الوطنية؟!
لا مشكلة في هذا الاطار. كانت الدولة أرحم مما يتوقع الجميع، فالعفو العام الذي صدر مسح الجراح وطوى صفحة الحرب. ها هو الحزب الاشتراكي قائم لم يحل، ولم تفتح المحاكمات لإدانة المخطئين… مَن كانوا في الخارج عادوا إلا أقلهم، والباب مشرّع بعد أمام الراغبين في العودة، ما عدا »الستة عشر« الذين اعتُبروا »خونة« للوحدة ولليمن…
يهمس لك آخر: حتى هؤلاء يمكن النظر في أمرهم إذا هم بادروا إلى إعلان التوبة، أو نقدوا أنفسهم وتجربتهم البائسة التي كلّفت اليمن أكثر مما يطيق. ها هي صحيفة الحزب الاشتراكي تصدر حاملة أقصى النقد للحكم والحكومة، بل يمكن اعتبار الكثير مما يكتب فيها تحريضù مباشرù ضد النظام… وها هم نواب الحزب في المجلس، لم يسائلهم أحد ولم يطعن أحد في شرعية تمثيلهم لمن انتخبهم.
لم تكن الحرب مفاجئة في اليمن، لكن النصر جاء أسرع وأبهى من التوقع. ولعلّ مما يهوّن الأمر أن »السلطة المركزية«، انطلاقù من العاصمة صنعاء، هي التي انتصرت، وليس طرفù من الأطراف: لا القبائل ولا الأحزاب…
ثم إن الجيش »الشرعي« لم يكن يقاتل وحده. كان الشعب هو من حسم المعركة. وفي حديث أي يمني تلقاه، اعتداد واضح بالنفس: لقد كان في المعركة. لقد شارك في إحراز النصر. ملأ صندوق سيارته أو شاحنته بالمؤن والمعلبات والخبز وذهب الى جنده متبرعù، متطوعù، ينصر الوحدة: مستقبله وضمان حقه في حياة كريمة.
المشكلة الآن في مواجهة أعباء النصر في بلد حكمت عليه الجغرافيا أن يكون جزيرة الفقراء في محيط من الذهب الوهّاج والمحروس جيدù بأساطيل أقوى قوى الكون.
لا مجال ل»الفَيد«،
فالحرب لم تكن غزوù شماليù للجنوب، والإيمان بقدسية »الوحدة« منع الكثير من ضروب الوحشية والفظاظة والتصرفات الانتقامية، كالسبي والنهب وتقاسم الأسلاب… ولعله الحرص على اليمن هو الذي دفع بالجيشين إلى حصر الحرب في إطارها النظامي،
ففي مدينة عمران، التي انفجرت فيها الشرارة الأولى على شكل »مجزرة« حقيقية للدبابات، تكاد لا تلمح أثرù لتلك المعركة الطاحنة التي تواجهت فيها دبابات »الجيشين« في معسكر واحد، وحطم بعضها بعضù من مسافات قصيرة جدù لا تتعدى في الغالب الأعم بضعة أمتار، واضطر رجال »اللجنة الأمنية« من أميركيين وفرنسيين وأردنيين إلى القفز من النوافذ أو تمَّ سحبهم عبرها…
* * *
الذهب أخطر من النصر في تأثيره على الناس…
والأزمة الاقتصادية التي تعصف باليمنيين الآن تربك المنتصرين، وخصوصù أن تبعات النصر ثقيلة لا تستطيع الوفاء بها خزينة شبه مفلسة وإدارة متخلّفة ومُفسدَة وشعب لا يعمل أو هو لا يجد مواقع للعمل تناسب القدرة من غير أن تضر بالمزاج والميل إلى الدعة.
والدعة هي القات،
والقات يتمدّد في اليمن أرضù وشعبù: تلتهم نصوبه النحيلة والمتطاولة أخصب الأرض، طاردةً البن اليمني الشهير الذي لا تعادل قيمة إنتاجه ربع المحصول الممتاز من القات (الذي يمكن أن يعطي موسمين أو أكثر في السنة)، ولا هو ينفع اليمنيين في الهرب بعيدù عن واقعهم هاربين إلى أحلامهم التي تعود بهم إلى ماضيهم فيستوطنونه متخفّفين من أثقال التفكير بالمستقبل وهمومه العديدة!
أما الناس، فأمرهم عجب: مَن لا »يخزِّن« من اليمنيين »شاذ« و»منحرف« وغير طبيعي،
الرجال عمومù والنساء عمومù والفتيان عمومù يهدرون يوميù ما بين خمس ساعات وثماني ساعات في مضغ أوراق تلك النبتة التي يتبارون في نفي تهمة التخدير عنها، ويسبغون عليها ثوب »الطقس الاجتماعي«، ويتدفقون منتشين وهم يشيدون بمزايا »المقايل« حيث يتلاقى الجميع، من الأمير إلى الخفير، ويتجاذبون أطراف الحديث في الموضوعات جميعù من السياسة الى الأدب شعرù ونثرù إلى الطب والزراعة وانتهاءً بالأزمة الاقتصادية.
الكل يعترف: لقد زاد استهلاك القات، وزاد استهلاكه للوقت والطاقة.
والكل يعترف: إن القات يذهب بالكثير من الأرض الزراعية ويهدر الكثير من إنتاجية اليمني…
لكن أعظم الانتقادات والاعترافات تقال في »المقيل« وتسمعها من »مخزِّنين«،
يظنهم مَن يراهم للوهلة الأولى بخدودهم المتورمة وكأنهم يعانون من آلام في أضراسهم ولا من طبيب.
* * *
لا عدن هي الجنة، ولا صنعاء هي »آزال«، و»الهدهد« لم يعد ينطق منذ زمن بعيد، وبلقيس استقرت في الأسطورة لا تغادرها إلا متى عصف الشك بوجودها أصلاً، وسدّ مأرب بات منحة من الشيخ زايد الذي كان تباهى ذات يوم بأصله اليمني ثم أخذه الغضب من موقف علي عبد ا” صالح من حرب الخليج فاندفع إلى مساندة »الانفصاليين« انتقامù من »حليف صدام حسين«،
لكن اليمن في التاريخ، بل لعلها هي التاريخ: يأسرها في طياته المغبرة،
ومهما كبر اليمني سيظل أصغر من تاريخه الذي يحتجزه فيظل داخله، أي في الماضي… خصوصù أن لا حدود في اليمن بين الماضي والحاضر،
هل فتحت الحرب طريقù إلى المستقبل، أم أوصدت الباب على اليمن في ماضيها البعيد؟!
ذلك هو أخطر سؤال تواجهه اليمن اليوم: قيادة وشعبù…
وحول هذا السؤال سيتركّز الحوار مع الرئيس اليمني علي عبد ا” صالح والعديد من القيادات، وبينهم الكثير من أهل الماضي »المستقبليين« وأكثر من أهل الحاضر الماضويين،
فإلى الغد…

Exit mobile version