طلال سلمان

من اجل عدالة يحمي رجالها وحدة وطنية

ليس أفظع من إساءة أهل السلطة وحلفائهم من القوى السياسية إلى القضاء اللبناني، طوال السنوات الأربع الماضية إلا هبّتهم للدفاع عنه هذه الأيام، وبعد صدور القرار الأول للمحكمة الدولية بالإفراج عن الضباط الأربعة!
لقد أهين القضاء اللبناني أول مرة حين اعتبر غير مؤهل لتولي قضية في خطورة جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وذهب أهل السلطة بالقضية إلى مجلس الأمن الدولي، وهو مؤسسة سياسية بامتياز والأرجحية المطلقة فيها للنفوذ الأميركي بمختلف تجلياته وأطيافه…
وأهين القضاء للمرة الثانية حين فوّض مجلس الأمن عبر الأمين العام للأمم المتحدة بالتحقيق في الجريمة النكراء رجل المخابرات الألماني ذا السجل الأسود ديتليف ميليس، والذي انكشف كذبه منذ تقريره الأول الذي كان قد ضمنه استنتاجات متسرعة وكاذبة سرعان ما شطبها بطلب من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، الذي لم يجد لها سنداً جدياً في تقريره بتاريخ 21/10/2005… ومع ذلك قام رجل المخابرات الألماني الذي أحاطه بعض أمكر أهل السياسة في لبنان، وتناوبوا على الاحتفاء به وترتيب «سهرات الأنس» وأغرقوه بالشمبانيا التي يحبها، بتسريب أسماء من ارتأى (بتزكية من أصدقائه اللبنانيين) اتهامهم، وهم من كبار المسؤولين السوريين، فنشرتها بعض الصحف الأميركية، لتكون موضع استثمار سياسي ممتاز لأهل السلطة وحلفائهم في لبنان، مع معرفتهم بأنها «مشطوبة» من تقرير المحقق الذي أساء الأمانة، بدليل أن أحداً من المحققين الذين جاءوا بعده لم يتوقف عند تلك الاستنتاجات.
وأهين القضاء للمرة الثالثة حين عقدت السلطة ذلك البروتوكول العجيب مع لجنة التحقيق الدولية، والذي تسبّب في ما بعد بخلافات سياسية كادت تتحول في ظل ظروف الهياج التي نجمت عن جريمة الاغتيال، إلى سبب إضافي للفتنة بين اللبنانيين.
وليس سراً أن الطموحات الشخصية لبعض أهل السلطة لعبت دوراً خطيراً في عملية القفز بقرار إنشاء المحكمة الدولية من فوق اعتراضات كبار المسؤولين في لبنان ومعهم معظم الكبار من أهل القانون، لكي يتحوّل إلى سبب إضافي للخلاف، في الداخل، ولإذكاء مناخ الفتنة.
لقد كان التحقيق «مسيساً» منذ اللحظة الأولى وحتى نهاية عمل لجنة التحقيق الدولية، وتحوّل المحقق الرابع دانيال بيلمار فيها إلى مدع عام لدى المحكمة الدولية.
فالأساس الذي أرساه ميليس كان مسيساً، ولقد ارتكز عليه من جاء بعده من المحققين الدوليين، بشهود الزور فيه، وإفاداتهم التي اعتمدت في توقيف الضباط الأربعة والأخوين عبد العال، (اللذين ثبت زيف اتهامهما وبادر القضاء اللبناني إلى إطلاق سراحهما، من دون شرح لأسباب احتجازهما طوال السنوات الأربع إلا قليلاً)… في حين استبقى الضباط «كرهائن» حتى جاء قرار المحكمة الدولية يطلب إليه «تحريرهم» فوراً مسقطاً عنهم الاتهامات جميعاً، بما يدين القرار بتوقيفهم واسترهانهم لمدة 44 شهراً!!
[ [ [
ذلك بات من الماضي؟! حسناً، فلنتحدث عن الحاضر:
إن مجلس القضاء الأعلى سيعقد غداً جلسة خاصة واستثنائية جداً لتدارس ما أثير من اتهامات وما أطلق من حملات ضد بعض القضاة ممن تولوا التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
وأسوأ «دفاع» عن القضاء، أو بعض رجاله، هو ذلك الذي يعتمد السياسة منطلقاً، في حين أن المفترض بالقضاة أن يكونوا منزهين عن الغرض وعن الميل السياسي، فكيف إذا تم تغليف «السياسة» بالمناخات الطائفية أو المذهبية.
لا يحتاج القضاء إلى تزكية من الطائفيين والمذهبيين. تلك «شبهة» تسيء إلى القضاء وليست دفاعاً عنه.
ولقد حكم هذا النمط من الدفاع الرديء عن قرارات سياسية محصنة بدماء المقتولين غدراً السياق العام لقضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، على امتداد أربع سنوات أو يزيد قليلاً..
كل من حاول أن يناقش، أن يستفسر، أن يدقق، أن ينبه حرصاً على طهارة الدم المسفوك غيلة ومنعاً للإتجار به في سوق النخاسة السياسية، محلياً وعربياً ودولياً، ودولياً بالذات، كان الرد عليه اتهاماً في شرفه وفي صدق محبته للرئيس الشهيد أو تعاطفه مع قضيته، أو حتى في دينه، فضلاً عن وطنيته وحرصه على الوصول إلى الحقيقة التي صارت «حقائق» متناقضة بحسب الغرض والمصلحة في الاستثمار.
لقد أشيع مناخ من الإرهاب بحيث بات السؤال عن «حقيقة» من اخترع هسام هسام وزهير الصدّيق، وعن الغاية من تضليل التحقيق بأمثال هؤلاء الشهداء الكذبة، جريمة.
الأخطر أن أهل القضاء لم يحركوا ساكناً حين انكشفت جريمة اختراع شهود الزور هؤلاء لتضليل التحقيق، ولم يبرّروا اعتمادهم في مرحلة، ولا عدم استرداد بعضهم (الصدّيق) في مرحلة لاحقة، ولا إطلاق سراح من اعتقل ظلماً وزج به في السجن طوال هذه الفترة من دون تهمة محددة، ومن دون دليل على «تورطه» بأي شكل في الجريمة..
لقد كان التحقيق الدولي مسيساً، بشهادة ما قرره المدعي العام الدولي (الذي كان آخر محقق دولي في جريمة الاغتيال التي بحجم جريمة ضد وطن)..
وأهمية القرار الأول الذي أصدره دانيال بيلمار، كمدع عام، أنه يدين التحقيق الدولي وبطله الأول ديتليف ميليس، ومعه من صمت عنه ولم يردعه من أهل القضاء في لبنان، الذين نفترض أن قرار الإفراج عن الضباط الأربعة لم يفاجئهم لسبب بسيط: أنهم يعرفون تفاصيل التفاصيل عن التحقيق الدولي وكيف تمّ تركيبه، ومن كان يستهدف، ومن كان المؤهل والقادر على استثمار الوقائع المضللة والشهادات الكاذبة، وصولاً إلى تمرير المحكمة الدولية بالطريقة الشوهاء التي أساءت إليها كما إلى الرئيس الشهيد الذي عاش وعمل حتى آخر رمق من أجل توطيد الوحدة الوطنية، وبين أسباب توطيدها حماية المقاومة التي سجلت للبنان (والعرب) واحدة من أنصع الصفحات في تاريخه، والتي اجتهد ديتليف ميليس ولم يتدخل أهل القضاء في لبنان لمنعه (ومنع أصدقائه من أهل الشمبانيا) من تزوير الوقائع لتوجيه الاتهام ليطاول أعظم المتضررين من جريمة الاغتيال، أي أهل المقاومة ومعهم الشعب اللبناني جميعاً.
[ [ [
غداً حين يلتئم عقد مجلس القضاء الأعلى ستكون المهمة الأولى المطروحة عليه إنقاذ شرف القضاء، وتوكيد ترفعه فوق مجريات اللعبة السياسية، المطعّمة بالطائفية والمذهبية، والتي كادت تحول فاجعة لبنان بخسارة رفيق الحريري إلى صاعق تفجير للفتنة والحرب الأهلية.
تكفي الإشارة إلى إعادة استيلاد قانون الستين للانتخابات النيابية، بكل الأجواء المشحونة (طائفياً ومذهبياً) التي ستظلل هذه «العملية الديموقراطية»!! كواحدة من الثمار المحرّمة التي استولدها التحقيق المطعون في صدقيته، كما أثبت القرار الأول للمحقق الأخير الذي بات الآن المدعي العام في المحكمة الدولية.
لقد كان يُراد من التحقيق الدولي، بصيغته الأولى، أن يكون صاعق التفجير للحرب الأهلية.
واليوم، يُراد تحويل القرار الرقم واحد للمحكمة الدولية إلى سبب للانشقاق الوطني، بينما كان يفترض به أن يعيد توحيد اللبنانيين حول مطلب الوصول إلى الحقيقة التي لم تساعد لجنة التحقيق الدولي (التي نابت عن القضاء اللبناني) في الوصول إليها، بل هي تسبّبت في خلق مناخات مسمومة ضربت الوحدة الوطنية، فضلاً عن أن استثمارها السياسي قد أضر أولاً وأساساً بالقضاء اللبناني، رجالاً وسمعة..
ولافت أن يكون الأعظم تعنتاً في تطويب لجنة التحقيق الدولية قديساً لا يطاوله الخطأ أو الغرض، قد نفض يده الآن منها، مشككاً في قرار المدعي العام الدولي وهل هو تبرئة أم مجرد إطلاق سراح لعدم كفاية الدليل…
فالاعتراف بأن هذا القرار يعني البراءة بالنسبة للضباط الأربعة قد يتسبّب في خسارة بعض المقاعد، في الانتخابات، ولذلك لا بد من العودة إلى اللعبة الجهنمية باستثارة الغرائز والحساسيات الطائفية والمذهبية… ولا بأس من استخدام بعض أصحاب المواقع الدينية، مرة أخرى، في حرف المسألة عن سياقها الطبيعي.
إن أمام مجلس القضاء الأعلى مهمة تأسيسية اليوم: أن يترفع فيرفع نفسه فوق أهل السلطة والسياسيين عموماً، إذا استطاع، وأن يستعيد حريته المسلوبة ليعود المرجع الشرعي القادر والمؤهل على صون العدالة ممن يحاول تسخير أهل القضاء ليكونوا ضدها، بضعفهم وخوفهم من انتقام أقطاب النظام الطوائفي الذي يتهدد لبنان في وجوده.
ويكفي أن يستذكر أعضاء مجلس القضاء الأعلى ما أصاب زملاءهم الكبار من المرشحين لعضوية المجلس الدستوري، مما أساء إلى سمعتهم وإلى دورهم المفترض، كي يؤكدوا جدارتهم بموقعهم: حماة للعدالة وليس لمن يستضعفهم فيتجاوزهم أو يوظفهم لأغراضه.

Exit mobile version