طلال سلمان ابن الدركي العصامي أصبح مدرسة وجامعة وأكاديمية في علم الصحافة، ليس على صعيد النظرية فحسب، بل وفي الممارسة وهي الأهم، وذلك منذ أن أنشأ جريدة “السفير” (26 آذار/مارس 1974)، لتكون فضاءً جديدًا يتّسع لأقلام متنوّعة مؤتلفة ومختلفة، متباينة وموحّدة، مجتمعة ومتفرّقة، لكنها تلتقي تحت سقف العروبة والحريّة والجمال.
أولًا؛ المهنية والثوابت الوطنية:
بدأ طلال سلمان حياته في صفّ الحروف، وتدرّج في العمل الصحفي، حتى استقرّ في صحيفته “السفير”، مُحققًا حلمه، بل مغامرته، وتحدّيه الأكبر، فقد جرت العادة في لبنان أن البيوتات الكبرى والعائلات الثريّة هي التي كانت تمتلك هذا الامتياز، لكن طلال سلمان قرّر كسر هذا التقليد والنمطية والتراتبية الاجتماعية، مقتحمًا هذا الميدان، مراهنًا على مهنيّته وعروبته، ودعم من يقف معه ويريد صحيفةً خارج الاصطفافات التقليدية، ولطالما لقّح المهنية بالعروبة الثقافية الجامعة في إطار التجديد والحداثة.
ولم يخّل بهذا التوازن طيلة أربعة عقود ونيّف من الزمن، أدار فيها المركب الصعب والمعقّد بهدوء وثقة، لا تخلو من دعاباته الساخرة أحيانًا، حيث كان يُعبّر عن أشدّ المواقف حراجة بتعليقاته اللّاذعة التي ظلّت على شفتيه، وكأنها حاضرة للانطلاق، سواء مع أصدقائه وزوّاره، أم عند اشتداد الأزمات، مع تقديراته للموقف في قراءة التوازنات المتناقضة، واختيار موقعه المستقل في إطارها، دون إهمال ثوابته الوطنية والمهنية التي ظلّ يعاشقها بالعروبة، بل يعجنها بإتقان ومهارة ووعي، ويسقيها بمائها حتى تُزهر، وقد أزهرت “السفير” حقًا وأينعت ثمارها وازدادت شموخًا وعلوًا، لتحتل موقعًا متميّزًا، يشير إلى مجد الصحافة اللبنانية، التي تمثّل جوهرة الصحافة العربية وعنوانها وجدواها وجدارتها.
ثانيًا؛ مملكة طلال سلمان:
نستعيد افتتاحيات “السفير” التي كان يكتبها طلال سلمان، فقد كانت تنبض حياةً وروحًا، وهي روحه الجميلة المتطلّعة إلى الحريّة، فهو يكتب بدمه وضميره، فيسيل من حبره فيض العروبة، وتنساب من حروفه قيم الإنسانية، وتتدفّق من كلماته روافد الجمال والحب والحريّة، وتتداخل في نبرة صوته أصوات عديدة وكأنها تمثّل سمفونية موحّدة لفرقة فنية عالية المهارة والإبداع، وهكذا يتوحّد الاختلاف وتتلاقى الروافد المتعدّدة لتصب في إطار موحّد من التنوّع والتناسق والانسجام.
كانت “السفير” مملكة خاصة لطلال سلمان، لكنّها لم تكن مُلكًا شخصيًا، لأنه فتحها للجميع حتى أصبحت صحيفة الجميع، تجمع ما اختلف وما ائتلف من أفكار وآراء في إطار هارموني تعددي منسجم، لأنه كان مدركًا أن الحياة قابلة لمثل هذا التنوّع، بل أن لا حياة حقيقية دون التنوّع، ففيه تنبجس الحقيقة وتنكشف الرؤية، ولأنه كان يريد أن يلمّ بالصورة من جميع جوانبها، ولا يكتفي بما يظهر له للوهلة الأولى، فإنه كان يبحث عن الوجوه الأخرى لكي يستكمل رؤيته ورؤياه.
أراد طلال أن تكون “السفير” مؤرّخًا أيضًا، وتمثّل التيارات المختلفة، فـ”الصحافي مؤرّخ اللحظة” حسب ألبير كامو. هكذا لم يرغب أن تفلت صاحبة الجلالة لحظة من بين أصابعه. لذلك كان يعتبر المعلومة قوّة وبتراكمها ودلالاتها ودروسها تتكوّن المعرفة، وحين تنضج عبر الممارسة تتأسس الحكمة، وحسب فرانسيس بيكون “المعرفة سلطة”، والصحافة اليوم ليست السلطة الرابعة، بل هي السلطة الأولى، في ظل العولمة والثورة العلمية التكنولوجية والتطوّر الهائل وغير المسبوق في وسائل الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية “الديجيتال” واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي، حيث الطور الرابع للثورة الصناعية.
حفلت “السفير” بسجالات جادة وحوارات معمّقة ونقاشات مسؤولة، وكانت فسيحة بحيث تتّسع لوجهات النظر المتعارضة، دون محاولة إزاحة كلّ طرف للآخر أو تهميشه أو إقصائه، لأن من يملك مثل هذا “الحق” كان حريصًا أيّما حرص على أن تكون “السفير” منبرًا حرًا مفتوحًا للإبداع والتنوّع والتعدّدية، وكان طلال ينشر أحيانًا وجهة النظر ووجهة النظر المغايرة بكلّ أريحية وثقة واحترام، بل يطلب وجهة نظر ثالثة في مرّات عديدة.
وعلى الرغم من قربه من مؤسس حركة القوميين العرب الدكتور جورج حبش وإيمانه بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، الذي التقاه يوم كان شابًا في العشرين من عمره في دمشق بمناسبة إعلان الوحدة بين سوريا ومصر، وتأسيس الجمهورية العربية المتحدة (23 شباط/فبراير 1958)، حيث ترك ذلك اللقاء تأثيرًا كبيرًا في نفسه، حتى أن صورته مع عبد الناصر ظلت معلّقة طيلة السنوات المنصرمة في مكتبه المهيب وهو وإن عُدّ ناصري الهوى، إلّا أنه جعل من “السفير” ملتقى للتيارات الفكرية القومية والبعثية والشيوعية والإسلامية والليبرالية، وذلك خلال ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن.
ولهذه الأسباب ولموقفه المتميّز من القضية الفلسطينية التي خصّص ملحقًا شهرياً لها، حظي باحترام التيارات المختلفة، دون أن ننسى أن ذلك يغيظ بعض القوى المتربّصة التي حاولت أكثر من مرّة الإطاحة به وبجريدته، وكسر قلمه وإسكات صوته، فقد تعرّض إلى محاولتَيْ اغتيال، مثلما تعرّضت مطابع “السفير” إلى عملية تفجير في تشرين الثاني/نوفمبر 1980، ومن سوء الصدف أنني كنت قد أرسلت له دراسة عن الحرب العراقية – الإيرانية، قال لي إنه سينشرها على حلقتين أو ثلاث حلقات، لكنها احترقت مع مقالات أخرى حين تم تفجير المطبعة.
ثالثًا؛ طليعيّة “السفير”:
كنتَ تجد في جريدة “السفير” المفكر السوري ياسين الحافظ والشيوعي المصري رفعت السعيد والروائي السعودي عبد الرحمن منيف والشاعر الشيوعي العراقي سعدي يوسف والمفكر القومي العربي اللبناني كلوفيس مقصود والمسرحي السوري سعد الله ونّوس والمسرحي العراقي جواد الأسدي والشاعر الفلسطيني محمود درويش والكاريكاتيريست ناجي العلي والكاتب والصحافي الفلسطيني بلال الحسن، إضافة إلى شباب لبنانيين متحمسين مثل جوزيف سماحة وفوّاز طرابلسي والياس خوري وحازم صاغية وجورج ناصيف وعباس بيضون، ومعظم هؤلاء إنتموا إلى منظمة العمل الشيوعي التي كان يرأسها محسن ابراهيم، وكنت تجد من المشاركين والكتّاب في الجريدة، إضافة إلى اللبنانيين، العراقيين والسوريين والمصريين والفلسطينيين وكتّاب مغاربة وخليجيين أيضًا.
ظلّت “السفير” مثلما بدأت، جريدة طليعية بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، حداثية مجدّدة، أعطت مساحة كبيرة للأعمال الإبداعية والثقافية والأدبية، وقدّمت شعراء وأدباء شباب كتبوا فيها للمرّة الأولى وأفسحت في المجال لهم لكي يأخذوا مكانهم جنبًا إلى جنب الأسماء الكبيرة والمعروفة.
كانت “السفير” حقًا صحيفة لبنان في الوطن العربي، وصحيفة الوطن العربي في لبنان، لأنها مثّلت نسيجًا عضويًا مترابطًا، بحكم ترابط القضايا المصيرية العربية، أساسها المشروع النهضوي العربي ممثلًا بالاستقلال السياسي والتنمية الاقتصادية المستقلة والعدالة الإجتماعية والوحدة العربية والديموقراطية والانبعاث الحضاري، وهو المشروع الذي أنضجه مركز دراسات الوحدة العربية على مدى عقدين من الزمن، وبمبادرة من المفكر خير الدين حسيب، الحاصل على جائزة الدولة اللبنانية لخدماته الجليلة.
رابعًا؛ عرفته في مجلة “الصيّاد”:
عرفت طلال سلمان قبل أن ألتقيه، وذلك يوم جاء إلى العراق في العام 1969 ممثلًا مجلة “الصياد” التي كان يملكها سعيد فريحة. وقد نشر تحقيقات في غاية الأهمية عن مجموعة القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي الذين التقاهم في معتقل قصر النهاية، فهو الصحافي الوحيد الذي سُمح له بدخول هذا المعتقل الرهيب لإجراء مقابلات مع المعتقلين، إضافة إلى نشر صور جماعية وفردية للعديد منهم، حيث كان بعضهم مجهولًا بالنسبة إلينا، نعرفه بالإسم لكننا لا نعرفه بالصورة، بسبب ظروف العمل السري. وقد نشر اعترافاتهم وتبادل الانتقادات والتهم بينهم، حيث أظهرت تلك المقابلات البعض بحجمه الحقيقي، خصوصًا تهافته وتذلّله بعد أن كانت تُحكى عنه الأساطير عبر جمل ثورية رنانة وثورية طفولية مع جرعات زائدة من التطرّف.
استذكرنا مرّة قصيدة كتبها السكرتير العام لحزب القيادة المركزية عزيز الحاج يرثي فيها نفسه، وهي التي نشرها طلال سلمان في مجلّة “الصياد” في حينها، ضمن أوراق عزيز الحاج، يقول فيها:
سقط الزورق المكابر في اليمّ
وطافت أشلاؤه للعيان
واحتوته الأمواج قذفًا ودفعًا
لا منار يهدي لا شاطئان
وفي قصيدة أخرى يهجو عزيز الحاج فيها رفيقه بيتر يوسف، وكلاهما أصبحا سفيرين للنظام الذي أرادا إسقاطه، في حين استشهد تحت التعذيب عدد من رفاقهما البواسل، وتلك إحدى مفارقات السياسة وألاعيبها الوسخة، والقصيدة حاكى فيها عزيز الحاج ما كتبه الشاعر الكبير الجواهري في قصيدته “أي طرطرا تطرطري”، التي نشرها في العام 1946، سخرية من رجال العهد الملكي:
أي طرطرا، تطرطري.. تقدّمي، تأخرّي
تشيّعي، تسنّني.. تهودّي، تنصّري
تكرّدي، تعرّبي.. تهاتري بالعنصر
تعمّمي، تبرنطي.. تعقّلي، تسدّري
تزيّدي، تزبّدي.. تعنّزي، تشمّري
في زمن الذرّ إلى بداوة تقهقري
وقصيدة الجواهري تُحاكي في الوزن والقافية قصيدة من العهد العباسي تسمى “الدبدبية“، وهي منسوبة لتقي الدين بن المغربي، ويقول فيها:
أي دبدبة تتدبدبي/ أنا علي بن المغربي
تأدّبي ويحك في/ حق أمير الأدب
وأنت يا بوقاته/ تألفّي تركّبي
وأنت يا سناجقي/ يوم الوغى ترتّبي
أما قصيدة عزيز الحاج، التي يهجو فيها بيتر يوسف، فيقول فيها:
أي بيترًا تبيتري تبيتري
وعبّري عن حقدك الأسود ما لم تقدري
بالأمس كنت بيننا شقاوة كعنتر
واليوم (…).
يذكر أن بيتر يوسف كان ضمن الخط الصدّامي، وهو ما يغمز فيه عزيز الحاج إلى رفيقه، وما يعيّره به، على الرغم من أنهما “في الهوى سوى”، كما يُقال.
حدّثني طلال سلمان وكنتُ قد سمعت ذلك من عبد الإله النصراوي أيضًا أنه توسّط لدى صدّام حسين الذي كان نائبًا للرئيس أحمد حسن البكر، لإطلاق سراحه، حيث كان معتقلًا، وحصل ذلك حين طرحت الحركة الاشتراكية العربية التي كان النصراوي أمينها العام رغبة في الحوار لإبرام جبهة وطنية موحّدة كان الحزب الشيوعي قد دعا لها.
خلال الثمانينيات الماضية، ومع اشتداد أوار الحرب العراقية – الإيرانية، واختلاف مواقف الشخصيات والقوى السياسية والثقافية إزاءها، فتح طلال سلمان جريدة “السفير” على مصراعيها للتعبير ونشر وجهات النظر المختلفة، فكتبتُ مقالًا فيها بعنوان “أزمة الحكم في العراق أم أزمة شعارات“؟ صدر لاحقًا في كرّاس محدود الطبعة (1987)، وفيه ناقشت بعض اتجاهات المعارضة، لا سيّما مواقفها من الحرب العراقية – الإيرانية والمشروع الحربي والسياسي الإيراني، الذي أعلنّا عن رفضنا له بعد انسحاب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية عام 1982، عقب هزيمة معركة المحمّرة (خرمشهر)، ويوم التقيته في بيروت قال لي “هذه جريدتك وهي مفتوحة لك وللمنبر الذي تمثله”، وكنت بين الفينة والفينة أرسل له ما يصدر عنّي.
وبعد الإحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 دعانا لتنظيم ندوة في مبنى “السفير”، أديب الجادر وصلاح عمر العلي، الذي كان صديقه منذ أن كان وزيرًا للإعلام في بغداد 1969، ووميض عمر نظمي والشيخ جواد الخالصي وكاتب السطور، ولكن وقائع تلك الندوة، التي دامت أربع ساعات على جلستين، لم تنشر. وقال لي بعد فترة أنت تُقدّر الموقف الذي اتّخذناه من الاحتلال، ولكن الهجوم علينا والضغوط التي نتعرّض لها أكبر مما تتصوّر، قلت له أتفهّم ذلك وأعرف حراجة الموقف.
خلال ربع القرن المنصرم كنت على اتصال وتواصل وتزاور مع طلال سلمان، وأتذكّر أننا ذهبنا سويّة مع الشاعر محمود درويش إلى دمشق لحضور حفل تأبين الشاعر السوري الصديق ممدوح عدوان في العام 2004. كما كنّا سوية في إطار ندوة مهنية كبرى في القاهرة، جمعت الحقوقيين والمحامين والصحافيين، نظّمها اتحاد المحامين العرب واتحاد الصحافيين العرب والمنظمة العربية لحقوق الإنسان عام 1999، وكنت محاضرًا فيها، وقال لي يومها مسؤوليتك أكبر لأنك تلبس القبعتين الحقوقية – القانونية والصحافية، وهو مثل فرنسي معروف.
ويومها نظّم جاسم القطامي حفل استقبال على شرف جميع المدعوين (من أساتذة ومتدربين)، وكان طلال سلمان إلى جواره، حيث صادف مرور ربع قرن على تأسيس “السفير”، وكذلك فاروق أبو عيسى أمين عام اتحاد المحامين العرب وصلاح الدين حافظ، أمين عام اتحاد الصحافيين العرب ومحمد فائق أمين عام المنظمة العربية لحقوق الإنسان.
ويوم رحل جورج حبش في 26 كانون الثاني/يناير 2008، طلب مني مقالة عنه، فهو يعرف علاقتي به التي تمتد إلى سنوات طويلة، وذلك لنشرها ضمن ملف خاص، وكتبت مقالة بعنوان “جورج حبش الاستثناء في التفاصيل أيضًا“، وأعدت نشرها مؤخرًا في كتابي “مذكرات صهيوني” (2023). كما كنّا سويّة على المنصة ومعنا السفير السوري علي عبد الكريم علي وشخصيات أخرى في أربعينية رحيل الصديق تيسير قبعة وألقينا كلمات بالمناسبة. والتقينا أكثر من مرّة في أكثر من عاصمة عربية، إضافة إلى بيروت الجامع الأكبر.
كتبت على نحو شبه منتظم في “السفير” في مواضيع فكرية وثقافية وحقوقية وسياسية، خصوصًا حين أصبح نصري الصايغ مسؤولًا عن صفحات الرأي، وتوزّعت مقالاتي بين “السفير” و”النهار“، التي كنت أكتب فيها على فترات متقطعة، لكن دون انقطاع.
خامسًا؛ الصحافة الورقية والصحافة الالكترونية:
يوم قرأت مقالة الصحافي اللامع محمد كامل عارف مستشار العلوم والتكنولوجيا والموسومة “الصحافة 2013.. وداعًا أم أهلًا وسهلًا“؟ توجّست خفية من أن “السفير” من الممكن أن تُغلق، طالما أن صحفًا كبرى أخذت طريقها إلى الإغلاق بفعل انتشار الصحافة الالكترونية بدلًا من الصحافة الورقية.
في البدء كانت الكلمة حسب السيّد المسيح (ع) (إنجيل يوحنا)، وورد على لسان النبي محمد (ص) في أول آية نزلت عليه “إقرأ باسم ربّك الذي خلق” (سورة العلق/الآية 1). هكذا هو دور الكلمة، فهي منطوقة أولًا، ثم أصبحت مكتوبة بعد ابتكار الكتابة، وحين تمّ اكتشاف الطباعة أصبحت مطبوعة بعشرات ومئات الآلاف وربما الملايين، وبفعل تكنولوجيا الإعلام والاتصالات المنطوقة والمكتوبة والمرئية، تحوّلت إلى أرقام وومضات الكترونية، يمكن بثّها وتداولها حول العالم بسرعة الضوء، ووفقًا لهذا التقديم يتساءل محمد كامل عارف أيبقى حاجة للصحافيين؟ فقد فرض الإنترنت كتّابًا ومذيعين ومصورين وناشرين وموزعين، فما مصير الصحافيين والصحافة كمهنة بلا حدود؟
وكنت قد بحثت مرّة مع طلال سلمان بعد أن تردّد احتمال إغلاق “السفير”، هل صحيح ما يُقال؟ قال بعد أن أخذ نفسًا عميقًا من سيجارته، لا أريد لجريدة “السفير” أن تنحدر ولا أريدها أن تأخذ منحىً آخر، والأفضل أن ننتظر فرصة أنسب. لم يكن يقبل تحوّلها إلى صحيفة الكترونية مثلما بادر الصحافي الكبير عبد الباري عطوان إلى تأسيس صحيفة الكترونية باسم “رأي اليوم“، بعد أن ترأس تحرير جريدة “القدس العربي” لنحو ثلاثة عقود من الزمن، لكنه اضطّر إلى التخلّي عنها بعد الأزمة التي طالت العديد من مالكي الصحف التي ليس وراءها دولة أو جهة مالكة تستطيع الاستمرار بها، وحتى هذه تقلّصت إلى حدود غير قليلة.
في مطلع العام 2017 أقدم طلال سلمان على خطوة حاسمة تجرّع مرّها.. نعم “السفير” توقفت عن الصدور نهائيًا. وتلك الخطوة أغلقت أحد مصادر الهواء على نفسه وعلينا وعلى عشرات الآلاف من القرّاء، الذين كانوا يفتتحون صباحهم مع فنجان القهوة وجريدة “السفير”. كان القرار قاسيًا وثقيلًا عليه وعلينا، وإن ظلّ لفترة غير قصيرة يفتتح صباحه في المكتب وكأن “السفير” موجودة ويستقبل ضيوفه ويسمع منهم آخر الأخبار، وينسى أحيانًا أنه لم يكتب افتتاحيتها التي اعتاد على كتابتها، حتى استفحل عليه المرض فأخذ يستقبل ضيوفه بعد انتهاء وباء كورونا مساء كل يوم خميس، وكنت حريصًا على حضور بعض تلك الأمسيات الأسبوعية، التي تُثار فيها نقاشات جادة ومسؤولة، خصوصًا باستضافة العديد من الشخصيات، بينهم الفضل شلق والسفيرالمصري ياسر علوي ونوال الحوار ومالك أبو حمدان وناصر حطيط وحسين أيوب وآخرين، وكلما زارت إحدى الشخصيات الفكرية والثقافية والإعلامية العاصمة اللبنانية كنت أصاحبها لزيارة طلال سلمان وكانت آخر زيارة إلى مكتبه قبل دخوله المتكرر إلى المستشفى مع البروفسور شيرزاد النجار، ورحّب بنا أيما ترحيب وبحفاوته وخفة دمه وظرافته وعبّر عن موقفه من المطالب العادلة للكرد بنبرته التي لا تكاد تُسمع، ولكنه حذّر من التدخلات الأجنبية، وهو ما أشرت إليه في مقابلة مع إذاعة “صوت الشعب” في بيروت بعنوان “وداعًا طلال سلمان”.
سادسًا؛ طلال سلمان مجموع وليس فردًا:
لم يكن طلال سلمان فردًا بقدر ما كان مجموعًا، فقد زاد بمواقفه من شحنة الكرامة لدى القارئ، خصوصًا موقفه الوجداني والضميري المنحاز إلى الحق والعدل. وبقدر صلابته فقد كان متسامحًا، وبقدر ما كان صوتًا للفقراء فقد كان لكل لبنان ولكل العرب. وبقدر تمرّده فقد كان نقده هادفًا ورقيقًا أحيانًا، لكنه عميقًا، وبقدر إيمانه بالتغيير فقد كان يريده سلميًا وتدرجيًا، حتى وإن كان طويل الأمد.
آمن طلال سلمان، بلا حدود، بإمكانات الأمة وبقدرات شعب فلسطين في تحقيق الانتصار على الصهيونية، وقد رعا مؤسسة “كي لا ننسى صبرا وشاتيلا” التي كان يتابع أمورها سنويًا مع شخصيات دولية تجتمع في بيروت كلّ عام.
وبالرغم من خيبات الأمل والخذلان من الأنظمة لكنه كان مؤمنًا بالطاقات الكامنة لشعوب الأمة العربية ودورها التاريخي الحضاري الذي لا بدّ من استعادته. مثلما كان يدرك دور الصحافة بشكل عام، والكلمة الهادفة بشكل خاص في عملية التنوير والتغيير، فهي حين يحسن استخدامها بدقة نحو الهدف، تكون أقرب إلى المدفعية الثقيلة، والتغيير في القول أولًا.
ترك طلال سلمان لنا ثروة هائلة، فإضافة إلى أعداد “السفير” (لأربعة عقود) ثمة باقة من الكتب والمؤلفات، التي لا بدّ من مراجعتها ومراجعة تجربته ودراستها بكلّ عناية وجديّة واستشراف مستقبلي. منها:
- مع فتح والفدائيين 1969
- ثرثرة فوق بحيرة ليمان 1984
- حجر يثقب ليل الهزيمة 1992
- الهزيمة ليست قدرًا 1995
- على الطريق.. عن الديمقراطية والعروبة والإسلام 2000
- سقوط النظام العربي من فلسطين إلى العراق 2004
- لبنان العرب والعروبة 2007
- على جدار الصحافة 2012
أستطيع القول إن “السفير” مثّلت ألمع التجارب الصحافية العربية وأكثرها انفتاحًا، وكانت أقرب إلى محفل ثقافي أو قل برلمان شعبي متجدّد ومنفتح على جميع ألوان الحداثة الثقافية والأدبية والكتابة السياسية الراقية، شعرًا ورسمًا وكاريكاتيرًا ومسرحًا وغناءً وموسيقى وسينما، بل إن المدوّنة القانونية والتعليمية والجامعية كان لها حصّة في “السفير”. ولم يكن ذلك ممكنًا لولا رؤيوية طلال سلمان ونظرته المستقبلية، فقد كان جزءًا من عقله يعيش في المستقبل من خلال وعيه المتقدم وفكره المنفتح والتصاقه بقضايا الناس وانحيازه لهم وانهمامه بالعروبة غير المؤدلجة، وإن كانت “السفير” جريدة رأي وخبر وموقف، ولكن دون انغلاق، ويعود ذلك إلى نضج أدوات طلال سلمان وتجاربه المبكرة في مجلة “الأنباء” إلى “الشرق” إلى “الحوادث” إلى مجلة “الأحد” إلى “دار الصياد”، وكلّ تلك الذخيرة التي اختزنها، وجدت خميرتها الأولى في جريدة “السفير”، التي جمعت أقلامًا عربية رصينة ومبدعة.
طلال سلمان لا نقول وداعًا بل نقول اشتياقًا.
نشرت في موقع 180 بوست