لا مبالغة في القول إن جامعة الدول العربية قد عقدت، أمس، أخطر اجتماع لها، وعلى مستوى وزراء الخارجية لا المندوبين.
مصدر الخطورة أن ما صدر عن هذا الاجتماع الاستثنائي يشكّل ذروة نادرة للصدق المعبّر عن واقع الحال: إن أهل النظام العربي مختلفون أشد الاختلاف من حول القضايا والمسائل التي كانوا يجتمعون في الماضي من حولها، فيتناقشون ولا يتفقون، لكنهم يخرجون على الناس ببيان إنشائي فخم العبارة بما يكفي لطمس التعارض، سرعان ما تعززه تصريحات مجاملة تداري الكشف عن أسباب الخلاف أو تقفز من فوقها، لتترك مساحة للأمل باتفاق ما في موعد آخر للاجتماع التالي… وهكذا دواليك حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
أمس، قال البيان الصادر عن الاجتماع الخطير، إن أهل النظام العربي قد اختلفوا على الموضوعين اللذين فرضا تلاقيهم السريع وهما فلسطين بعد المجزرة الإسرائيلية الجديدة في غزة، ولبنان بأزمته السياسية الخانقة ممثلة في صيغة الحكم فيه، بالرئيس والحكومة والمنهج المحقق للتوازن، وبين عناوينه العريضة قانون الانتخاب.
أي إن وزراء الخارجية العرب قد أعلنوا جهاراً أنهم مختلفون من حول إسرائيل، والموقف منها، والذي لم يظهر للناس أنه قد تبدل، حقيقة، بعد المذبحة في غزة عنه قبلها… خصوصاً أن وزيرة الخارجية الأميركية قد أسرعت في الحضور إلى المنطقة، وكانت محطتها الأولى في القاهرة، لتمنع أي احتمال لاندفاعة عاطفية، مثلاً، تُخرج العرب من التزامهم بالمشروع الأميركي الغامض والمبهم والذي باعهم أوهاماً حول الدولتين فوق أرض فلسطين إحداهما هي الدولة الإسرائيلية العظمى والمخيفة القائمة فعلاً، والثانية هي نتف من وعود وتعهدات غير ملزمة وليست لها أية ركائز جدية بل لها خارطة طريق إلى المجهول!… وفي ذلك المجهول يقبع حلم الدولة الفلسطينية، الذي لا تفتأ إسرائيل تعمل لتحويله إلى خرافة بالمستعمرات الاستيطانية وجدار الفصل العنصري ومصادرة ما تبقى من الأراضي في القدس وخارجها، وبالقتل اليومي والاعتقالات على مدار الساعة، وصولاً إلى الحرب على غزة وأهلها من الأجنّة وحتى الشيوخ مروراً بالأطفال والبيوت والإدارات إلى حصار التجويع والإذلال طلباً للأمصال والأدوية اللازمة لوقف النزيف.
… ولإضفاء الجدية على المهمة الجديدة القديمة للوزيرة رايس، فقد سبقت واشنطن، فجأة، بالإعلان عن إرسال بعض المدمرات إلى قبالة الشواطئ اللبنانية السورية، محددة لها مهمتها: الضغط على دمشق للكف عن تهديد الحكومة المنتخبة ديموقراطياً في لبنان!
التوقيت فضّاح: لقد أرادت الإدارة الأميركية فرض حصار شديد على مشروع القمة العربية المقررة في دمشق! وهو حصار يشجع معارضي السياسة السورية وتحالفاتها على مقاطعة القمة بذريعة أن دمشق تمنع مسيرة الديموقراطية اللبنانية التي بات عنوانها الأوحد انتخاب رئيس للجمهورية تمّ اختياره بالإجماع في اجتماع سابق لوزراء الخارجية العرب، وتعذر إنجاز هذا الانتخاب حيث يجب، أي في بيروت.
أما المذبحة في غزة فقد رأتها السيدة رايس جملة معترضة لا يجوز أن توقف أو تعطل المفاوضات مع سلطة محمود عباس العاجزة حتى عن منع إسرائيل من اعتقال مناضلي فتح في الضفة الغربية، بل وفي رام الله ذاتها وعلى بُعد أمتار من مكاتب رئاسة السلطة …
وبالتالي فقد كان مطلوباً ألا يشاغب الاجتماع العربي على المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية تحت الرعاية الأميركية، حتى مع وعي الجميع أن ليس هناك من مفاوضات، بل صور مبتسمة للقاءات عائلية متكررة في منزل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بلا جدوى… اللهم إلا تحقير النضال الفلسطيني، وتقزيم القضية الفلسطينية و إخراج العرب نهائياً منها وجعلها مجرد خلاف ثنائي بين أبو مازن وأصدقائه حكام الدولة الجارة إسرائيل!
من هنا فليس سهواً أن يخلو البيان الصادر عن مجلس الجامعة من كلمة واحدة عن المدمرات الأميركية التي تولت حراسة المذبحة الإسرائيلية في غزة، حتى لا يخطئ أي مسؤول عربي التقدير فيتهور في تصريحاته، أو تخطئ هذه الحكومة العربية أو تلك، بل هذه الجمعية الإنسانية أو تلك، فتمد يد المساعدة (ولو بالأمصال والأدوية وأكياس الدم) إلى الضحايا الفلسطينيين للحرب الإسرائيلية على غزة..
لقد كان البيان، مرفقاً بتصريحات رئيس الدورة، وزير خارجية جيبوتي، والأمين العام للجامعة، غاية في الصدق والصراحة والمكاشفة: إن أهل النظام العربي مختلفون على الموقف من إسرائيل، بحاضر العلاقات ومستقبلها معها، وعلى السياسة الأميركية التي تجاوزت دبلوماسية السيدة رايس إلى المدمرات، وعلى لبنان، بحاضره ومستقبله.
لا مبادرة السلام تصلح بعد أرضاً لموقف موحد، من إسرائيل، واستطراداً من فلسطين، قضية وشعباً وسلطة متهالكة.
ولا القمة كما قدمتها مجادلات الوزراء ستنجح في حسم الخلافات التي باتت أعمق من أن تغطيها البيانات المتينة الإنشاء والمفرغة من المضمون، دون أن يلغي هذا الواقع ضرورة انعقادها.
في الماضي، كانت الإدارة الأميركية تضغط فتلزم بعض عرب الاعتدال بالتصدي لعرب الاعتراض ، بحيث تنعقد القمة وتخرج بقرارات لفظية مخيّبة للآمال، ولكنها تحفظ الحد الأدنى من التلاقي بأمل العودة ذات يوم إلى قواسم مشتركة ما، تحمي مؤسسة القمة ومعها بل قبلها مؤسسة الجامعة العربية.
أمس كان الموقف موجعاً في صراحته: هذا هو واقع العرب، في هذه اللحظة.. اختلاف على البديهيات، وتعذر التلاقي على توصيف المخاطر على المصير، حتى بين من يقرون بوجودها.
لكن هذه الصراحة تظل أخف وطأة من التكاذب أو من المجاملات التي تغطي المواقف الفعلية وتخدر المواطن العربي حتى يستفيق على كارثة جديدة… أو على حرب جديدة، وهذه المرة بين العرب والعرب وليس بين العرب وإسرائيل.
… والمدمرات أصدق إنباء من الكتب!