طلال سلمان

مهجرون كاستثمار سياسي بين بلديات رئاسة

من قبل مؤتمر بيت الدين الذي افتتحه وليد جنبلاط، أمس الأول، السبت، بمهرجان من الألعاب النارية الحارقة سياسياً، كان موضوع المهجرين قد أخذ يغيّب، بالسهو مرة وبالعمد مراراً، عن البرنامج الفعلي للحكم، المتساوية أولوياته إلى حد الاختلاط والتداخل المربك.
نضب المال، تدريجياً، فصارت المطالب أثقل من المنافع، وتناقص الإنجاز على الأرض فارتفعت أعلى فأعلى أصوات الابتزاز السياسي، المموهة دائماً بمطلب العدالة في التوزيع الطائفي،
ومع اتضاح مدى الصعوبة في طي مخلّفات الجولات الأشد شراسة في تاريخ الحرب/ الحروب اللبنانية، العربية، الدولية، تحول موضوع المهجرين إلى لازمة دائمة في مواعظ الأحد كما في تصريحات السياسيين وفي بيانات الأحزاب وفي برامج المرشحين للانتخابات النيابية ومن ثم البلديات.
وفي حين كان »المهجرون« يزدادون رسوخاً وتأصلاً واندماجاً في البيئات الجديدة التي استقروا فيها، وتتلاشى روابطهم الحياتية بمساقط رؤوسهم ومهاجع الصبا، مستبقين الحنين والذكريات وحسرات الاقتلاع بالقوة، فإن »موضوعهم« كان يزداد قابلية للاتجار والاستثمار، وبالنسبة للحكم ومعارضاته، على حد سواء،
لا بد من قدر من الشجاعة للقول: إن الحوار الدائر حول المهجرين، وسواء احتدم فبلغ حد الحديث عن »الكرخنة«، أو الاتهام بالهدر، وهو تعبير مهذب عن »الاختلاس« أو »السرقة«، إنما يدور خارج واقعهم اليوم، وخارج مستقبلهم غداً. إنه، في أحسن الحالات، حول الأمس الذي لن يعود، مهما حسُنت النوايا، أو حول ما كان يجب أن يكون، وهو لن يكون مهما تسامت مقاصد سعاة الخير الذين يريدون علاج الجرح المفتوح.
مع الأيام، التي صارت سنوات وها هي تصير عقوداً، فقد الحديث عن »عودة المهجرين« الكثير من موضوعيته، وتهاوت مشاريع الحلول »القديمة«، أي المثالية، من خلال ارتطامها بالواقع الجديد في البلاد عامة، وواقع هؤلاء الناس الذين لا يمكن أن يبقوا »مهجرين« إلى الأبد، على وجه الخصوص.
فهم، مع الأيام، وبغض النظر عن الحق وعن الرغبة، تحولوا تدريجياً إلى »نازحين« وانضموا بقوة الأمر الواقع إلى طوابير اللبنانيين الذين نزحوا من قراهم وبلداتهم في الأرياف (القريبة أو البعيدة) ليزدحموا في قلب بيروت (الذي كانت الحرب قد أفرغته) وعلى أطرافها في أحزمة البؤس (قديمها المجدد أو الجديد)، وإجمالاً حيث تيّسرت لهم الفرص لإعادة صياغة حياتهم، بالمعنى الاقتصادي وبالمعنى الاجتماعي، وبما يضمن حماية مستقبل أبنائهم، حتى لا يلحق بحاضرهم الذي اغتالته السياسة الطائفية أو الطائفية السياسية.
ولو خُيِّر المهجرون اليوم، وفي استفتاء حر، بين »العودة« التي ما تزال حلماً إلى حيث لا مصادر للرزق أو الانتاج، ولا مجال لعيش كريم يفتح أمام أبنائهم أبواب الغد المرصود للمحظوظين، وبين البقاء حيث توفرت لهم شروط السكن المقبول واللقمة الحلال والمدرسة ذات المستوى المقبول، ووسائط التسلية والترفيه، والجيرة المؤانسة، ومراكز الطبابة والاستشفاء الخ..
.. لو خُيِّروا فعلاً، لفضلت أكثريتهم الساحقة أن تبقى حيث ابتنت حياتها الجديدة، حتى لو قررت الاحتفاظ بالبيت الريفي المهجور، إلا في الإجازات، والأرض الزراعية التي لا تعطي ما يعوّض كلفة استزراعها، وحماية الحق في الانتساب إلى مسقط الرأس والذكريات ومثوى الآباء والأجداد.
على أن الحوار الدائر فوق أرض السياسة يتجاوز هذه الحقائق جميعاً متجهاً بقوة تأكيد الدور أو حمايته، إلى مجالات أخرى بعيدة كل البعد عن »المهجرين«،
وخطاب وليد جنبلاط في الافتتاح أوضح من أن يحتاج إلى تفسير.
من يعيد من، وإلى أين وبأي ثمن؟
الوزارة، أي الوزير، أم »الصندوق«، أي رئيس الوزارة؟!
لقد قضت الحكمة السياسية أن يكون من اتهم، أو وضعته ظروف الحرب وموقعه فيها، بأنه »بطل التهجير«، هو هو بشخصه وبقوة تمثيله المسؤول عن إعادة المهجرين، ولعله قد أعطى »وزارة المهجرين« من حجمه ما جعلها تبدو، في لحظات، أهم الوزارات، بل وعنوان نجاح الحكومات أو فشلها.
ولعل وليد جنبلاط لم يقبل هذا المنصب بالذات إلا لأنه رأى فيه تجسيدا لنظرية »الرئيس الرابع« التي كانت تعود إلى التداول كلما اشتدت حملاته على »الترويكا« التي تقيم بينه وبين الحكم جدارا سميكا من مشروعية »الطوائف العظمى«، ملغية بذلك أو محجِّمة دوره في السلم، بينما كان الأول في الحرب، وبات مع نهايتها وكأنه المسؤول الأول عن نتائجها المفزعة.
إن كل طرف يلعب لعبته المذهبية أو الطائفية، ويمد شباكه لعقد تحالفات ثنائية أو ثلاثية مقوياً ومستقوياً ب»أحزاب« المذاهب والطوائف،
ووليد جنبلاط كان وما زال وسيبقى المؤهل الدائم لتجديد الثنائية الدرزية المسيحية، وبعث »روح الجبل« الذي طالما شكّل المركز وأعطى للنظام (القديم المجدد) الكثير من مبررات وجوده.
ثم ان وليد جنبلاط هو الوحيد القادر دائما على تمويه صيغ التحالفات الطائفية بغلالة سياسية توفرها علاقته الاستثنائية بمجموع الأحزاب العلمانية (القديمة)، مضافا إليها الآن »حزب الله« الذي يبحث بدوره عن مخرج من »الشرنقة المذهبية« المحاصَر فيها، والتي ضاقت عليه حتى ليكاد يختنق فيها.
إن نتائج الانتخابات البلدية، في الشوف كما في إقليم الخروب، تظلل هذا المؤتمر الذي قاطعه المحسوبون على رئيس الحكومة، المرجع الأخير للصندوق الوطني للمهجرين.
كذلك فإن شبح الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد مئة يوم، يطل عبر الموقف »الاستقلالي« والمتميز لوليد جنبلاط، باعتباره »صوتاً مفرداً« فيها، لا يمكن تضمينه في موقف غيره، ولا تجاوزه وكأنه »مجرد وزير« أو واحد من نواب مجلس ال128 القابلين »للانصهار« في صوت واحد.
إنه الهجوم الجنبلاطي المضاد على الهجوم الواسع الذي قاده رئيس الحكومة، عبر الانتخابات البلدية، ليؤكد فيه حجمه »الشعبي« الاستثنائي، إضافة الى حجمه المالي الاستثنائي وحجمه السياسي الذي بات معترفاً باستثنائيته.
فمن الشمال بعاصمته طرابلس، الى بيروت، الى جبل لبنان (وبخاصة الإقليم، الذي كان دائما الساحة الخلفية لزعامة دار المختارة وأحد مصادر الوهج الوطني والقومي)، .. أما جونية فيمكن إيرادها من باب الطرافة مرورا ببعض البقاع (الغربي) وانتهاء بصيدا، تمظهرت لرئيس الحكومة مشاريع تحالفات لا تؤكد فقط زعامته في طائفته بل وكذلك وجوده الشعبي »على الأرض« في معظم مناطق لبنان.
وها هو وليد جنبلاط يرد بأن لزعامته الدرزية أبعاداً وامتدادات داخل الطوائف جميعا، في الجبل خاصة، وفي سائر أنحاء لبنان.
أما موضوع المهجرين فسيكون عليه أن ينتظر،
ولعل الانتظار سيؤدي منطقياً الى اندماج »المهجرين« ب»النازحين« الذين لا يمكن الافتراض انهم سيعودون فعليا من حيث نزحوا ودائما مرغمين إلا إذا اختلفت السياسة والمناهج وبرامج الحكم جذريا.
وطالما أن »الإنماء المتوازن« شعار براق ولكنه أكثر جلالاً وكلفة من أن يتحول الى برنامج فعلي للحكم في بلد يتكدس أكثر من نصف شعبه في عاصمته وضواحيها، ويتوزع النصف الآخر بين ضواحي المدن الأخرى القديمة (طرابلس، صيدا، زحلة) والتي استحدثتها الحرب (جونية أساساً وصور والنبطية وبعلبك)،
.. وطالما أن الزراعة قد باتت أثراً بعد عين، فلم يعد يتعاطاها إلا من لا خيار لهم غيرها، على بؤسها، خصوصا مع الإهمال المتمادي لمشاريع الري، وغياب الارشاد الزراعي، وانعدام الدعم المباشر للمزارعين، في السماد والبذار وفتح الأسواق للتصدير أو شراء المواسم بسعر تشجيعي، الخ،
.. وطالما ان الصناعة تعاني مسلسل أزمات خانقة إذ يمنعها ارتفاع كلفتها من المنافسة،
طالما استمر ذلك كله فإن موضوع المهجرين سيتحول الى لازمة دائمة لكل مشروع استثمار سياسي طائفي، في الحاضر والمستقبل.
وإذا كان »اتفاق« الجميع لم يحقق هذا الهدف الوطني النبيل (والمستحيل؟) فكيف يمكن الحلم بتحقيقه في ظل اختلاف الجميع مع الجميع؟!

Exit mobile version