حُسم الامر وصدر القرار بالإجماع: الامبريالية الأميركية والحركة الصهيونية ممثلة بإسرائيل ومعها الحليف التابع، الرجعية العربية ممثلة بأنظمة النفط والغاز، ومن استولدته ورعته من حكام الدول العربية: الثورة ممنوعة بالأمر، فلا مكان، بعد للشعوب ومطالبها، فضلاً عن مطامحها وحقها بغد أفضل.
وها نحن نشهد محاولات حثيثة، وبالدم، للقضاء على حلم الثورة، واغتيال آمال الملايين التي اخرجها اليأس من أن تكون السلطة وطنية وممثلة صادقة لطموحات شعبها في الحرية والعدالة الكرامة والتمتع بخيرات بلاده وبناء مستقبله الافضل فيها وبها ولها.
ـ في جزائر المليون شهيد من اجل استعادة الهوية القومية والارض والسيادة عليها وحرية هذا الشعب العظيم في بناء مستقبله الافضل على ارضه الحرة، بالجهد والعرق. بعد الدم الذي بذله لاستعادة بلاده، ثورة شعبية سلمية رائعة، وغير مسبوقة: الجماهير بالملايين في الشارع تعترض على دكتاتورية حكم العسكر واستئثار زبانيته بخيرات البلاد منذ نصف قرن او يزيد، وتطالب بحقها في أن تختار نظامها الديمقراطي، وعبر انتخابات نزيهة تمكنها من اعادة بناء مؤسسات الدولة، بالرئيس والحكومة والادارة، بإرادة وطنية جامعة، وعلى اسس ديمقراطية، ووفق الكفاءة والاخلاص في خدمة الشعب..
لكن الجيش الذي خلع احمد بن بله، وهو اول رئيس لجمهورية الجزائر الديمقراطية ـ الشعبية، المناضل الفذ وأحد القادة الخمسة الذين اسرتهم فرنسا بعملية قرصنة جوية ، بينما كانوا عائدين من المغرب..
بعد ثلاث سنوات من انتخاب بن بله بإجماع أول مجلس نيابي منتخب في البلاد، استمر الجيش يسيطر على السلطة ويتحكم بمقدرات البلاد ، يعين الرؤساء ويخلعهم كما يشاء ولا من يحاسب.. فلما وصل عبد العزيز بوتفليقة إلى سدة الرئاسة، بعدما استعاده الجيش من “منفاه” في دولة الامارات، رفض بعد الولاية الأولى ثم الثانية فالثالثة أن يغادر منصبه الفخم، برغم اصابته بالشلل بما يمنعه من النطق السليم والمشي على قدميه، واضطراره بالتالي إلى الجلوس وادارة شؤون الدولة من فوق كرسي متحرك.
وها أن الشعب الجزائري، بملايينه، في الشارع، منذ أكثر من مائة يوم والمجلس العسكري يرفض أن يتخلى عن السلطة، ويحاول مساومة الجماهير على فترة انتقالية تمكنه من التحكم بالانتخابات، متى جرت، إن هي اجريت، وبالتالي بإدامة سيطرته على السلطة، مفترضا أن الشعب سينهك من البقاء في الشارع، وسيعود الناس إلى بيوتهم المكتظة بعائلاتها من الشباب الذين لا يجد بعضهم متسعاً للنوم فيها فيتسكع في الشوارع لينام البعض الآخر لساعات، ثم ينهض ليفسح في المجال لسائر الاخوة كي يناموا، لان نوبته انتهت وعليه أن يخرج إلى الشارع فيتسكع فيه، بينما يأخذ اخوته فرصتهم في النوم.
مع ذلك فالجيش يتحايل على الثوار.. وهو قدم لهم رأس بوتفليقة ولكنه استمر متمسكا بالسلطة، يرفض أن يحدد موعداً لتسليمها إلى حكومة مؤقتة تجري انتخابات يتسلم بموجبها الشعب حقه في ادارة شؤون البلاد عبر رئيس منتخب ديمقراطياً، ومجلس نيابي شرعي أي عبر انتخابات ديمقراطية لا يدخلها التزوير، لاستمرار سلطة الامر الواقع حتى .. يشيب الغراب.
اما في سودان الخير، بشعبها الطيب والمسالم، والديمقراطي بطبعه، فان العسكر الذين استغلوا الثورة الشعبية الرائعة ضد نظام الدكتاتور حسن البشير، قد رفضوا أن يسلموا السلطة للشعب، وظلوا يماحكون ويرجئون، ويفيدون من الوقت لاستدراج عروض التدخل الخارجي، بالذهب.. وهكذا انطلق الضباط من قادة الانقلاب في جولات خارجية لتأمين الدعم، سياسيا، وماليا، وهذا هو الاهم.
رابط الشعب في شوارع الخرطوم وام درمان والخرطوم بحري، وفي سائر المدن، لم يغادرها لا في نهارات الصيف الملتهبة ولا في الليالي التي تعزز صموده بنسمات منعشة تجدد عزيمته وتؤكد رفضه للحكم العسكري، ومطالبته بحكومة مؤقتة تعد لانتخابات نيابية ومن ثم رئاسية تعيد إلى السودان هويته ودوره وتمكن شعبه من تسلم مقدرات بلاده الغنية، المنهوبة من بعض من في الداخل، ومن بعض “الاشقاء الاغنياء” الذين تتقدم مطامعهم على عروبته، ويريدون ـ وهم حكام النفط والغاز في بلاد بلا تاريخ يحكمها بعض من يدفعون من خير بلادهم ما يرضي السيد الاميركي لتمكينهم من بسط نفوذهم على اخوتهم الفقراء في بلادهم الغنية بمساحاتها وخصبها لمن يقدر على استثمارها والاستمتاع بخيراتها مقابل ثلاثين من الفضة..
رابط الشعب العظيم في الشارع والميادين المحيطة بمقر قيادة الجيش والرئاسة، ليلاً نهاراً، لمدة شهرين واكثر، بعد خلع البشير، وتسلم المجلس العسكري زمام الامور..
ثم، باشر كبار الضباط من أعضاء المجلس العسكري جولاتهم العربية، فزاروا بشكل منهجي القاهرة للقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ثم الرياض، وبعدها او معها ابو ظبي، ثم ذهبوا إلى مكة المكرمة للمشاركة في القمم الثلاث المذهبة التي استدعى اليها الملك سلمان وولي عهده الامير محمد بن سلمان قادة الدول العربية والاسلامية.. للتواطؤ على شعوبها!
..وهكذا ما أن عاد قادة الانقلاب من جولاتهم العربية، ومن ثم من قمم الملك سلمان، حتى بدلوا مسلكهم وغابت ابتساماتهم ليكشروا عن انيابهم ويأمروا قواتهم الخاصة بالهجوم على جموع المتظاهرين والمتظاهرات المعتصمين في الميادين والمنطلقين في تظاهرات مفتوحة على مدار الساعة، تجمع الشباب وصبايا الورد والفتية والكهول.
اصدرت القيادات العسكرية الانقلابية أوامرها الهمايونية بإطلاق النار على المتظاهرين، فسقط اكثر من مائة قتيل ومئات الجرحى، واحتلت الدبابات والوحدات الخاصة الميادين والشوارع، وشددت الحماية على المقر العام لقيادة الجيش والمخابرات..
كان الرصاص يحمل شعار من زدو به القوات السودانية الخاصة: الكوفية والعقال المذهب للسعودية، والعقال المطعم بالابتسامة الغامضة للشيخ محمد بن زايد، ولي العهد في دولة ابو ظبي العظمى..
لكن الثورة الشعبية ستبقى أقوى من الرصاص، وأقوى من مساومات المجلس العسكري الذي تعززت قدراته بـ”الشرهات” التي عاد بها بعض قيادييه من الدولارات المذهبة في بلاد الغاز والنفط..
الدم هو الاعظم قدرة على الفعل مهما استشرست قوات القمع العسكري،
وشعب السودان صاحب تجربة نضالية عظيمة / فأحزابه السياسية عريقة، ونقاباته العمالية هي ممثلة حقيقية لجماهير العمال في مختلف قطاعات الانتاج..
..اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر