عاش اللبنانيون، قبيل غروب شمس أمس، الخميس، لحظة ابتهاج نادرة وهم يرفعون رؤوسهم نحو السماء ويتابعون طائراتهم المدنية وهي تتهادى متجهة نحو مطار رفيق الحريري، الذي عاد دولياً بعد مسح آثار القدم الهمجية من فوق مدرجاته.
سقط الحصار الإسرائيلي، إذاً، الذي كان يشكّل جرحاً في الكرامة الوطنية، إضافة إلى أذاه الاقتصادي وضغطه النفسي الثقيل بوصفه امتداداً للحرب الإسرائيلية بغير كلفة على هذا العدو الذي تقصّد ضرب أسباب الحياة في الوطن الصغير الذي قاومه ببسالة نادرة وانتصر على جيشه الجبّار، ولو بكلفة عالية في الأنفس والرزق والقدرة على مواصلة تطوره المتناسب مع طموحه.
وبرغم أن استمرار الحصار البحري يظل غصّة، ولو مؤقتة، إلا أن حالة الاستنفار التي كان يعيشها لبنان، بشعبه وسلطته التنفيذية والتي عبّرت عن نفسها ضمن تعبيراتها المؤثرة في الاعتصام النيابي، كان يمكن إعلان فكها لولا بعض المنغّصات التي سبقت فك الحصار أو واكبته..
ذلك أن القوى السياسية المتنافرة في طروحاتها قد عادت إلى الاصطفاف في معسكراتها السابقة على الحرب، لتواجه بعضها بعضاً متخذة من الحرب ذاتها سبباً إضافياً لتعميق الانقسام، ولاستيلاد أنماط جديدة من الحصار المؤذي لصورة الوطن والمثير لقلق مواطنيه..
كأن الحرب الإسرائيلية لم تكن.. بل كأن هذه الحرب قد وفّرت ذخيرة إضافية للمخاصمات والكيديات وتسجيل النقاط، بدلاً من التوحّد في مواجهة آثارها وتداعياتها التي يمكن أن تتجاوز بخطورتها على جميع الأطراف، أي تقدير.
بتسرّع لافت تمّت محاصرة المقاومة بالاتهامات، بل وبالإدانات، وكأن الحرب الإسرائيلية وفّرت الفرصة المرتجاة للتخلص من عبئها الثقيل..
تداعى الخصوم إلى التلاقي، واستعادوا لغتهم القديمة وقد عزّزوها الآن بالأدلة الجرمية مأخوذة من الموقف التاريخي الشجاع الذي أعلنه الأمين العام ل حزب الله السيد حسن نصر الله، متحملاً المسؤولية عن خطأ في تقدير رد الفعل الذي أدى إلى قرار أميركي إسرائيلي بتبكير الحرب المقرّرة، فعلاً، بعد شهرين أو ثلاثة..
وبدلاً من التكاتف والتضامن لحماية صورة الشعب اللبناني البطل ومقاومته الباسلة التي زادت من رصيد هذا الوطن الصغير في عيون العرب والمسلمين، أساساً، بل والعالم أجمع،
وبدلاً من حماية الإنجاز العظيم الذي جعل لبنان قدوة ومثالاً وتوكيداً للقدرة على مواجهة الجيش الذي لا يقهر، والقدرة على التصدي له بكل أسلحته الفتّاكة، وبكل وحدات النخبة ودبابات النخبة، والقدرة على إغراق إسرائيل في أزمة وجودية في بعض وجوهها لا تعرف كيف تخرج منها،
بدلاً من التقدم للمشاركة في هذا الإنجاز (المكلف بطبيعته) ومن ثم في تقييمه بإنصاف، وفي الإفادة من وهجه لتعزيز مكانة لبنان، عربياً بالأساس ومن ثم دولياً، لأنه شاء حكّام العرب أو عمدوا إلى دفن رؤوسهم بالرمال، كالعادة هو إنجاز سوف ينالهم منه نصيب… فهو قد أمدّهم بزخم أعاد إلى دائرة الاهتمام الدولي قضاياهم المحقة.
بدلاً من التقدم إلى المشاركة في الإنجاز الوطني والقومي اختارت بعض القوى السياسية أن تجعل هذه اللحظة فرصة نادرة لمحاسبة المقاومة بل لإدانتها ومحاصرتها بالاتهام بالتسبّب في ما لحق بلبنان من تدمير، بما يشي بمحاولة لا فرق إن كانت مقصودة أو غير مقصودة لتبرئة إسرائيل من جريمتها التي أثقلت على كاهل حليفها الأكبر، الإدارة الأميركية فاضطرت إلى التسويق لمشروع وقف إطلاق النار، الذي انتهى بعد تعديلات فرنسية وحرج عربي مؤثر، إلى القرار ..1701
لم تصبح الحرب الإسرائيلية وراءنا. وفرق كبير بين أن يتلاقى جميع الأطراف مع المقاومة، لحماية الإنجاز الوطني والقومي، ومن ثم تقييم نتائج هذه الحرب الإسرائيلية والإفادة من مكاسبها ومحاصرة آثارها بموقف وطني موحد، وبين أن يتلاقى بعض الأطراف على قاعدة الخصومة بل والإدانة للمقاومة، وفي غيابها، مع أنها شريك مؤثر في السلطة وفي التوازن الوطني وفي المسؤولية عن إعادة بناء ما تهدم، مع حفظ شرف الدم الذي أريق من أجل لبنان، وحفظ كرامة الشهداء الذين أعطونا حياتهم من أجل هزيمة العدو الإسرائيلي ومنعه من تدمير لبنان مرة كل بضع سنوات، وبحسب قوة حكومته أو ضعفها.
لم تصبح الحرب الإسرائيلية وراءنا حتى نقرع جرس الانصراف للمقاومة، بكل جماهيرها التي منحتها وما تزال تمنحها قوة تمثيلية لا يحظى بمثلها الذين يحاولون الآن إدانتها قبل محاسبتها.
وليست على مثل هذه الصيغة الشراكة في المسؤولية عن الوطن الواحد، لا سيما حين يكون جريحاً، يحتاج تكاتف قواه جميعاً من أجل استعادة عافيته ودوره الذي بات الآن أفعل وأقوى تأثيراً مما كان، بشرط أن نعترف بالإنجاز المشرّف الذي تحقق لنا بدم الشهداء وليس بالعلاقات العامة أو بالمناورات السياسية التي تظل بمحليتها أقرب إلى الحرتقات منها إلى الاهتمام الجدي بمستقبل الوطن وأبنائه.
إن الأمر يتصل بحماية الوطن ومستقبله، فليكن سياسيونا بمستوى هذه المسؤولية.