طلال سلمان

محاكمة مرحلة «الاصنام»

هل تسمح الهموم اللبنانية الثقيلة، أمنياً ومعيشياً، وبالأساس سياسياً، والتي تنوء بحملها «الرعية» في هذا الوطن الصغير والجميل والمهدد في كيانه، بالتفاتة إلى ما يجري خارج الحدود قد تمنح «المواطن» فرصة الحلم بأن يستطيع ـ ذات يوم؟! ـ ان يمارس حقه في محاسبة نظامه وحاكميه، وان يُسقِط المقصِّر والمرتكب جرم الخيانة العظمى عبر «التحالف مع العدو الإسرائيلي، كما حدث أكثر من مرة، أو التعامل مع الأجنبي، فضلاً عن المرتشي والمتسبب في تعطيل الدولة، ودفع البلاد وشعبها نحو أتون الحرب الأهلية؟!
هل تمنحنا المقادير، في لبنان كما في سائر البلاد العربية، الفرصة في ان نشهد حدثاً تاريخياً، ومن خارج السياق، تفرضه الإرادة الشعبية كنقطة تحول جذري في سياق النضال من أجل الغد الأفضل، كالذي يعيشه أهل مصر، الآن، وإن اختلفت أكثريتهم الساحقة في نظرتها إليه مع أقليتهم المؤثرة؟!
فلسوف يحتل صباح هذا اليوم، الاثنين الواقع فيه الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، موقعاً مضيئاً في الذاكرة العربية جميعاً، وليس المصرية وحدها، وقد يكون فاتحة تاريخ جديد لهذه المنطقة التي كادت تُحذف بأهلها من الدنيا، إذ أُسقطت عنها هويتها القومية لتصير مجرد «جهة»، «الشرق الأوسط»، يحددها موقعها الجغرافي بالنسبة إلى القوى الدولية التي تتوزع العالم بنفوذها.
اليوم، وفي القاهرة، ستبدأ محاكمة رئيس ثان للجمهورية، هو الدكتور محمد مرسي، بعد الرئيس المقال حسني مبارك، خلال ثلاث سنوات إلا قليلا، فيؤتى به من محبسه ليقول القضاء كلمته في حكمه الذي لمّا يمتد لأكثر من عام واحد فأسقطه «الميدان» كما أسقط سلفه، من قبل، بالثورة الشعبية، وما تزال محاكمته جارية، مع حاشيته وناهبي ثروة مصر، منذ سنتين إلا قليلا.
وبغض النظر عن الاختلاف في الظروف وفي المواقف السياسية، بين الرئيس العسكري الذي «ورث» الرئاسة عن أنور السادات بعد اغتياله، والرئيس «المدني» الذي حمله اختلاف أفرقاء المعارضة لمن سبقه إلى السدة، فإن محاكمة كل من الرئيسين السابقين، حاضراً أمام هيئة محكمة مدنية تضم عدداً من كبار القضاة في مصر، تعتبر حدثاً استثنائياً، بل فريداً، في منطقة تعودت ان «يحاكِم» الرئيس ـ الملك ـ الأمير ـ الشيخ ـ العقيد ـ الفريق ـ السلطان شعبه، ومن دون ان يجرؤ أحد على التفكير، مجرد التفكير، بمحاسبة صاحب الأمر… ولعل أكثر من شعب عربي سيتابع، بقلبه وعقله قبل عينيه، وقائع هاتين المحاكمتين، ولا سيما تلك التي تجري اليوم، وهو يتمنى ـ أو يحلم! ـ بأن يشهد في بلاده مثل هذه السابقة التاريخية المثيرة: ان يحاسَب الحاكم وجاهياً وفي حضور محاميه، على ما اقترف «نظامه» من جرائم وارتكابات بحق مصالح وطنه وحقوق شعبه وحرياته.
ولقد مرَّ في تاريخ «الجمهورية اللبنانية»، على سبيل المثال، رؤساء للدولة تسببوا في نشوب حروب أهلية، وتعاملوا مع العدو الإسرائيلي، علناً، واتُهموا ـ مع رؤساء حكومات ووزراء، ومع رؤساء للمجلس النيابي ـ بإلحاق الأذى الجسيم بالدولة ومصالح الشعب.. ثم أمضوا تقاعدهم المريح في المصايف والمنتجعات، في الداخل والخارج!. بل انهم غالباً ما حاولوا ان يعودوا إلى السلطة ومغانمها، ولو من الباب الخلفي، من غير ان يخافوا المحاسبة فكيف بالمثول مخفورين أمام المحكمة؟!
وبطبيعة الحال فإن السرطان الطائفي والمذهبي الذي يضرب البلاد يجعل من محاسبة القيادات «فتنة»، بل انه غالباً ما يحول «المرتكب»، سواء أكان متسبباً في جرائم قتل أو اختلاس بالتزوير أو التعامل مع الأجنبي، بمن في ذلك العدو الإسرائيلي، إلى «بطل» في بيئته، وإلى شريك ضروري في الحكم… وإلا فالحرب الأهلية التي تتخذ من «حقوق الطوائف» عنواناً.
[ [ [
إن العرب يعودون إلى التاريخ، بعدما أخرجهم «سلاطينهم» منه.
لقد تحول أهل النظام العربي إلى «أصنام مقدسة»، وفرض على الشعوب المقهورة ان تخضع لها، والعصا لمن عصا.. بل ما هو أقسى من العصا وأكثر إيلاماً. فكثيراً ما تحول المعارض «العنيد» رافض رشوة النظام للالتحاق به إلى «عميل للأجنبي وخائن للوطن» وتمت محاسبته بقسوة فاحشة، وأحياناً بالقتل مع إخفاء جثته، وفرض الخرس على أهله وذويه.
من هنا تكتسي محاكمة «الفرعون»، في مصر، علناً، وأمام هيئة قضائية غير مطعون في نزاهتها، أهمية استثنائية، ليس بالنسبة للمصريين وحدهم بل بالنسبة للعرب جميعاً الذين طالما فرض على شعوبهم ان يخضعوا للحاكم الفرد حتى الوفاة، أو حتى التدخل الأجنبي الذي يلغي الدولة جميعاً.
إنها ليست محاكمة لفرد، أو حتى لحزب، كما هي الحال مع مرسي والإخوان المسلمين، بل هي محاكمة لمرحلة من التاريخ العربي الحديث بالمسؤولين عن مسارها بالخطايا والأخطاء القاتلة فيه… خصوصاً ان بعض هذه الأخطاء والخطايا قد مكَّن للعدو الإسرائيلي، وللهيمنة الأجنبية على إرادة الأمة، واستطراداً فإنها مكنت لحاكم السوء ان يستمر في السلطة طالما ظل قادراً على التحكم بـ«الأجهزة» و«المصالح»، قامعاً الشارع، مما يأتيه برضا «الدول» ودعمها… وبديهي ألا تكون هذه الدول أحرص على البلاد من ابنها البار الذي «قبض» على الرئاسة في لحظة قدرية قد تمتد دهراً، ثم تنتهي مع انفجار الثورة… وعندها تنقلب «الدول» إلى امتداح الثورة والثوار، وتؤكد انها مستعدة للتعامل مع «العهد الجديد»، كما فعل وزير الخارجية الأميركية، أمس، في القاهرة…
وليست هذه المرة الأولى التي تمشي فيها «الدول» في جنازات أصدقائها المخلوعين، ولن تكون الأخيرة! فهي أولاً وأساساً ودائماً مع «مصالحها» وإلى الجحيم «الأصدقاء» إذا استدعت ذلك حماية المصالح!

Exit mobile version