ليس أطول وأعقد من المفاوضات التي سبقت ورافقت التفاهم على »التفاهم« إلا المفاوضات الجارية الآن لمحاولة توحيد الفهم لمفهوم »التفاهم« وتطبيقاته العملية التي يفترض أن تكون مفهومة تمامù.
للتذكير، لا بد من استعادة الوقائع الآتية:
يتكوّن نص »التفاهم« (الرسمي) باللغة العربية من 256 كلمة، كل كلمة بذاتها مفهومة لكنها تخسر بعض مفهومها من خلال موقعها في الجملة التي يفترض أن تعطي معنى يفهمه قارئه بغير التباس، لكن الالتباس يظل غالبù على المعنى فيتركه حمّال أوجه لكل من يحاول فهمه.
تندرج الكلمات ال256 في 28 سطرù، 20 سطرù منها على الصفحة الأولى والأسطر الباقية على الصفحة الثانية. وتتوزع السطور على مقاطع تفصل بينها مساحات من البياض تكاد تكون هي بذاتها مساحة الفهم المتاحة للقارئ اللبيب.
تطلّب وضع ذلك النص العبقري مساهمات بلغات متعددة بينها، إضافة إلى العربية، الإنكليزية والعبرية والفرنسية والإيطالية والروسية والإيرانية… وواضح أن النص قد أخذ شيئù من روح كل لغة من هذه اللغات فجاء آية في الفصاحة ومتانة السبك وجلاء المعنى!
إن المحاضر التي تتضمن نصوص المناقشات والمناكفات والمنافسات والهجمات بالتهديدات والتحديات المضادة والحسابات التي أرادت توظيف الدم في الانتخابات وعمليات إخراج الانتخابات من ساحة المبارزات…
إن تلك المحاضر تقع، ولا بد، في مئات من الصفحات، وربما في آلاف إذا ما احتسبنا الشروح والذيول والإحالات والاستشهادات والمراجع التي لحظت للتوثيق أو لتحديد المقصود بالضبط،
على هذا فمن الطبيعي أن يطول النقاش حول مفهوم »التفاهم« وكيف ينفّذ وبأية آلية: ماذا يُفهم باللجنة؟ وماذا ستفهم اللجنة عن دورها وصلاحياتها؟ وماذا يُفهم بالمجموعات المسلحة، وبالمدنيين والأهداف المدنية؟ وما هو مفهوم حق الدفاع عن النفس؟! ثم ماذا عن مفهوم الخرق، ومتى يكون الخرق شرعيا وتقبله لجنة مراقبة تطبيق التفاهم، او ترفضه لانه خرق غير شرعي؟! وما هي اجراءات التعامل مع الشكاوى من قبل مجموعة المراقبة، ومتى تبت في شكوى الشاكي التي يفترض ان يقدمها خلال 24 ساعة من الخرق؟!
من هنا يتوقع العارفون ان توضع المجلدات في شرح مفهوم التفاهم على فهم موحد ومفهوم من قبل جميع اطراف »التفاهم«،
ووسط آلاف الصفحات من الشروح يصعب على تلك الكلمات الهشة في ذلك الاتفاق الركيك المبنى والمعنى ان تقدم مفهوما واضحا ومحددا ومقبولا من مختلف افرقاء النزاع حول »التفاهم«.
ان كل امر يحتاج الى المبالغة في شرحه هو ببساطة امر غير قابل للتنفيذ.
وكل نص يختلف واضعوه انفسهم على كل حرف فيه، وكل كلمة، وكل سطر، ثم يطمسون خلافاتهم تحت ضغط الاضطرار الى اعلان الاتفاق عليه لاسباب لا علاقة لها بمضمونه بل هي تتصل بأساس الموضوع لا بتفرعاته، هو نص غير قابل للحياة مهما برع الصيّاغ في تدبيج الفذلكات الموضحة لمفهوم المفهوم المعتمد قاعدة للتفاهم!
المسألة ببساطة كلية: هل ينفع »التفاهم« ورقة انتخابية مؤثرة في صندوق الاقتراع لشمعون بيريز زعيما لاسرائيل (وشرقها الاوسط الجديد؟).. نعم ام لا؟!
والجواب البسيط والمفهوم يتخذ شكل السؤال المفهوم والبسيط: ما الذي يفرض على لبنان وسوريا، تحديدا، وبعد كل الدم الذي سُفح، و»الغضب« الاسرائيلي الذي كاد يذهب بعملية السلام المترنحة اصلا، ان يقصدا طوعا الى صناديق الاقتراع لمنح صوتيهما لقاتل الاطفال الجديد؟!
كل شيء مفهوم بحيث لا يحتاج الى تفاهم عليه.
ولن يقترع لبنان، كما لن تقترع سوريا لشمعون بيريز، خوفا من ان يخرج من التفاهم الى الغضب مرة اخرى.
لذلك سيطول انتظار المنتظرين ولادة لجنة المراقبة لتنفيذ التفاهم،
وسيطول بعدها انتظار ان تفهم اللجنة التي ستولد بعملية قيصرية دورها في »التفاهم«، طالما انها ليست قابلة للاستخدام كورقة انتخابية مفهومة!
واول الفاهمين لهذا كله هم الذين وضعوا النص العبقري للتفاهم الفذ!