ينهض المجتمع، يتقدم، يحقق النمو الاقتصادي عندما تتوفر له قيادة سياسية تؤهلها صلتها بالمجتمع لأخذ القرارات وتنفيذها. القرار لا يكون بالقمع والاكراه والقسر بل بالسياسة، أي بالحوار وعقد التسويات بين مختلف أطراف المجتمع من العاملين فيه والطبقات العليا المالكة وأجهزة الدولة. تتراكم التسويات بما يوازي التراكم الاقتصادي. دور النخبة الثقافية والسياسية ان تعبر عن المجتمع وحاجاته في آن معاً. القيادة هي القدرة على الحوار والاقناع. ينطلق الحوار من رؤية مستقبلية، يعتمد الاقناع على وعي ومعرفة وقدرة على الاحاطة والاستشراف. لا يُصنع المستقبل الا انطلاقاً من رؤية عارفة ومن عمل دؤوب. في كل ذلك يحتل مفهوم التجاوز والانخراط في العالم موضعاً مركزياً. التنمية بحد ذاتها تجاوز لحالة سابقة، والا يكون النمو أو التراكم غير ذي معنى. والتبادل يعني انخراطاً في العالم والأخذ بالثقافة السائدة، ثقافة الغرب، بما في ذلك الاعتماد على العلم الحديث وتطبيقاته.
تعتمد التنمية اساساً على العمل والجهد المبذول في سبيل تلبية الحاجات الاجتماعية والفردية. لا يعمل بجدية الا من يعتقد ان له شراكة في الانتاج. هو لا يعمل فقط من أجل تلبية الحاجات الضرورية للبقاء والاستنسال. هو يعمل من أجل ذلك، ومن أجل أن يتاح له فائض يسمح له بالمشاركة في الحياة العامة بما فيها من لهو وفنون وثقافة وسياسة. هو يعمل بجدية أكبر عندما يكون شريكاً في السياسة وفي الوطن، عندما يصير مواطناً. لا بد من الضروريات من أجل الوجود البيولوجي. والكماليات أمور ضرورية للوجود الانساني. تصنيف العامل حسب تلقيه ما يكفي للضروريات هو بمثابة نزع الوجود الانساني منه. الانسان وما هو انساني فيه محور التنمية انطلاقاً وهدفاً. ليس الانسان رأس مال بشرياً، كما هو شائع في الادبيات المعاصرة؛ ليس الانسان عاملاً وحسب. هو محور التنمية التي لا بدّ من ان تعتمد التراكم الاقتصادي، او النمو الاقتصادي، لهدف خارج عن الاقتصاد والبيولوجيا. المحتوى الانساني هو جوهر التنمية.
التنمية هي ان يكون معنى الدولة منغرزاً في كل منا. الدولة ليست السلطة ولا النظام. هي ان يعيش الناس سوية. هي بقايا الشيوعية في مجتمع (مجتمعات) لم يبق فيه الكثير من الانسانية بعدما استنفد الانسان وبشريته في هيراركية تراتبية تعتبر الفرد البشري والانساني عضواً في مجتمع او دولة او انسانية تقتضي الحكم والتحكم بما يفوق المشاركة. ليس تاريخ البشرية سوى صراع بين المشاركة والتسلط (الهيراركية، الطبقية، او ما يشابه ذلك). الشيوعية ليست يوتوبيا المصير والمستقبل، بل هي كل التاريخ البشري الذي انتزعت فيه الانسانية من البشري. وتبقى الشيوعية هي معظم الحياة البشرية، الا ما انتزعته منها الطبقية (الهيراركية) والرأسمالية بمختلف اشكالها.
لم تكن الحالة البدائية للبشرية هي ما يعتمد على المقايضة، اي مبادلة شيء بشيء آخر يساويه في القيمة، كما نسب الى آدم سميث. لا شيء يساوي شيئاً آخر في القيمة، منذ بداية البشرية. ما يفضح هذا الامر مقايضة مزعومة للتبادل في جريمة القتل بين الروح والبشرية والفدية. الروح البشرية شيء، وما اعتبر انه يساويها في القيمة من كمية ذهب أو عدد من النياق أو الخراف شيء آخر. هل ورد عند واحد من هؤلاء الاوائل ان حياته، عندما يقتل، تساوي كمية معينة من النياق. الذين فرضوا مبدأ الفدية هم الذين فرضوا معادلة ان تساوي الروح البشرية كمية معينة من الاشياء المادية، هذا اذا اعتبرنا النياق في جملة الاشياء المادية.
لم تبدأ الحياة البشرية الاقتصادية بالمقايضة، اي مبادلة شيء مادي بما يساويه مادياً، لأنه لم يكن شيء يساوي شيئاً. ما فرض المساواة المادية بين الاشياء و(الارواح) هو الرأسمالية في اعتبارها للعمل المجرد. بدأت الحياة الحضارية بالتعاون مع انتقال المجتمعات البشرية الى الهيراركية (الطبقية وغيرها) جرت معادلة المنتجات بكمية العمل المتضمن فيها. كان كارل ماركس هو الذي بلور هذه النظرية مستفيداً ممن سبقوه. اكتشف ماركس قانون القيمة، أي العمل المتضمن في انتاج أية سلعة، وبالتالي يمكن مقارنة السلع ليس بميزاتها الطبيعية بل بما يضاف اليها من عمل خلال عملية التصنيع. المشترك بين جميع السلع هو العمل. كمية العمل المتضمنة في العمل لانتاج السلعة هي ما يقرر قيمتها بعد تضمينها الربح والفائدة، والريع الخ…
عن طريق المال استطاع رأس المال استعمال قيمة واحدة لجميع السلع. فالمال يعبر عن القيمة المتضمنة في انتاج السلعة. مع ازدياد أهمية رأس المال لم يعد المال وسيلة لتقييم السلعة. صار المال هدف انتاج السلعة، والمال غاية الرأسمالي. بَطُل المنتج عن الانطلاق من رأسمالي ينتج سلعة يبادلها بمال ويعول لمبادلة المال بمواد أولية لانتاج سلعة أخرى. صار النموذج هو امتلاك المال لانتاج سلعة عن طريق اخرين ثم بيع السلعة لاسترداد الثمن مع الربح وغيره من الفوائض. لم تعد السلعة محور الانتاج، صار المال هذا المحور. تضخم حجم المال، ما دام كل شيء غيره يخضع له. الدولة الوحيدة التي تطبع مالها من دون قيود وتقاس بها عملات العالم الآخر هي الولايات المتحدة. وهذه تستطيع ان تتلاعب بمصير أموال البلدان الاخرى دون ان يصيبها هي اي شيء. قوتها المالية والعسكرية وجهان لشيء واحد.
بعد ان صدرت الولايات المتحدة كثيراً من صناعاتها هي تصدر منذ قرون رساميلها. اتبعتها في ذلك بلدان أخرى. هذه الرساميل موجودة في بلادنا ليس من أجل النمو بل من أجل الربح، وهي تهرب حالما ترى الظروف غير مؤاتية، او هي تخلق ظروفاً غير مؤاتية تبعاً للظروف السياسية. لذلك يجب الحذر من التمويل الاجنبي لانطلاق عملية التنمية.
نموذج التنمية يجب ان يبدأ محلياً بالعمل والادخار والاستثمار؛ والاستثمارات الاجنبية لا يمكن ان تكون اساسية بل ذات دور تكميلي، وكل بلد يبنى باستثمارات اجنبية يملكه البلد مصدر الاستثمار.
أما توفر المواد الاولية فهو لم يكن مانعاً لدى أي من البلدان في حال توفرها. واذا توفرت محلياً فهي يجب ان تبقى ملكيتها محلية والبناء عليها. لا يعقل ان ينطلق بلد في عملية تنمية من دون ان يعرف، او يتعلم، استخراج وتصنيع المواد الاولية المتاحة لديه.
يترتب علينا في المجال العربي ان لا نخلط بين عملية التنمية وأي مطلب سياسي. التركيز فقط على فتح الحدود بوجه حرية البشر والمال والبضائع للتنقل عبر الحدود. حتى الآن، العقبات بوجه انتقال الافراد كثيرة ومهينة ويجب الخلاص منها. لا يعقل ان يحترم انتقال البضائع والمال أكثر من حرية انتقال البشر.
وذلك يعيدنا الى اهمية احترام الفرد في التنمية ضمن البلد الواحد وفي الانتقال الى بلد عربي آخر. الاثنان يكملان بعضهما. لا تستقيم عملية التنمية من دون ان يكون الفرد العامل هو اساسها؛ ومن دون ان يكون رأس المال الوافد مكملاً لما في الداخل. ليس رأس المال هو الذي ينتج بل الانسان هو الذي ينتج. رأس المال يربح وحسب. المنتج هو الوحيد الذي يستحق الاحترام. ولا يتحقق الاحترام الا في دولة تخلو من الاستبداد.
ينشر بالتزامن من الاعمار والاقتصاد