طلال سلمان

مفارقات »المخلوق« عربي وارهابة كوني

يعيش »المخلوق« العربي، هذه الأيام، تحت وطأة إرهاب نفسي يتخطى كل ما عرفه في حياته من أهوال، وهو إرهاب يشمل الآن كل عربي، بغض النظر عن جنسيته، وسواء أكان لبنانياً من أهل »التطرف« أم سعودياً من أهل الاعتدال، إماراتياً من المرفهين بنعمة دخولهم المرتفعة أم يمنياً من المعذبين في الأرض، مصرياً من المسحوقين بالفقر الفرعوني المعتق أم جزائرياً من المقتولين مرة بتهمة الكفر الذي يخرجه على أسامة بن لادن، ومرة ثانية باسم الإيمان الذي يخضعه لشريعة أسامة بن لادن، أم فلسطينياً من المنكور وجودهم كبشر والمنكورة عليهم بلادهم وحقوقهم فيها.
في ظل هذا الإرهاب العالمي المفتوح يعيش هذا »المخلوق« العربي سلسلة من المفارقات الموجعة بين صورته المعممة عالمياً، والتي يبدو فيها كوحش ضارٍ مجرد من أي خلق أو عاطفة أو دين (!!)، وبين واقعه الفعلي كمسحوق إنسان بلا حول ولا طول يمشي خائفاً من ظله كما من حاكمه، ظل الله على الأرض.
أولى هذه المفارقات: ان إدانة »المخلوق« العربي تسبق ولادته، وأن اسمه بات دليل إثبات على ولعه بالقتل، وأن بشرته السمراء تشهد بأنه من أبناء الشر ومن محترفي الإرهاب في كل مكان، وفي كل زمان، وضد أي كان!
وبالتالي، فكل »مخلوق« عربي مُدان إلى أن تثبت براءته، وما أصعب أن تثبت براءة من يُحكم قبل أن يحاكَم، ومَن ينصب له العالم المشنقة قبل أن يسمعه، وبمعزل عما يمكن أن يقوله أو يقدمه من أدلة على براءته أبرزها عجزه عن المشي في شوارع مدينته، فكيف بالتفكير والتدبير والتخطيط والتنفيذ الدقيق لعمليات على هذا المستوى من التعقيد.
ثانية هذه المفارقات: ان إدانته المسبقة تطمس واقع ضحية دائمة ومجانية لكل أنواع الإرهاب، الداخلي والخارجي، الأمني والسياسي، الاجتماعي والاقتصادي، العنصري والأخلاقي الخ..
بل ان »شرف« الإرهاب يكاد يُحصر به وحده من دون مخاليق الله في دنياه الواسعة، وبالتالي فهو طريد »العدالة الكونية« التي طالما طلبها وتوسل إليها أن تنصفه، وقرع أبوابها عبثاً حتى كل متنه ولم ترأف بحاله فتطيب خاطره ولو بكلمة طيبة.
ثالثة هذه المفارقات: أنه يُرفع فجأة إلى مستوى الجبابرة، أنداد امبراطور الكون، بينما هو بالغ الضعف بحيث لا يملك فرصة للحياة الكريمة في بلاده، ويودِّع يومياً أبناءه وهم يقصدون المهاجر البعيدة طلباً للعمل والأمن وسبل التحصيل العالي، أو كل ذلك معاً.
إنه الآن الخطر الأوحد على الجنس البشري وعلى الحضارة الإنسانية، وعلى حركة التقدم الدولي وعلى جبابرة الكون، غرباً وشرقاً، سواء أكانوا داخل الحلف الأطلسي أم يقفون على بابه متوسلين أن يدخلوا نعيمه الهانئ.
رابعة هذه المفارقات: ان هذا »المخلوق« المحتلة أرضه كما في فلسطين وسوريا ولبنان، او المرتهنة ارادته لأنظمة خاضعة او مخضعة للنفوذ الاميركي، المضطهَد في الداخل بسبب من أفكاره او حتى احلامه والمطارَد في الخارج، بسبب من سحنته او من دينه، يضخَّم شبحه الآن ليغطي على الارهاب المنظم، ارهاب الدولة، الذي هو ضحيته في يومه كما في غده، وقد تُرك لاسرائيل ان ترسمه له.
خامسة هذه المفارقات: ان هذا »المخلوق« الممنوعة عليه في بلاده حقوقه الطبيعية البديهية بالنسبة للناس اي انتخاب حكامه وممثليه المحليين، والانتساب الى احزاب او نقابات، والجهر بآرائه كتابة او مشافهة، والمخضع لتجارب مؤسسات التدريب على الديموقراطية وعلى الانتخاب، ومكافحة الفساد ومكافحة المخدرات، وكلها وافدة من الغرب، وبدافع الإشفاق، يصوَّر الآن وكأنه قادر على اجتياح العالم وتهديد أمن البشرية جمعاء.
سادسة هذه المفارقات: انه يُرمى بداء عدوه الاسرائيلي الذي ينصِّب نفسه الآن في موقع القاضي والجلاد معاً! فهذا »المخلوق« البائسة شروط حياته، هو المتعاطف الاول مع كل المظلومين وضحايا الاحتلال والاضطهاد والتمييز العنصري، لانه قد عانى من هذه الشرور جميعا، بل وهو ما زال خاضعاً او مخضعاً لأصناف الاضطهاد هذه جميعا.
لقد عانى »المخلوق« العربي من هذه الشرور، فردياً وجماعياً، في مختلف اقطاره، من المغرب الى اليمن، في الجزائر وتونس وليبيا، في مصر والسودان والصومال، في لبنان وسوريا والعراق والخليج العربي… أما في فلسطين فإن المجزرة مفتوحة منذ خمسين عاماً او يزيد، ومع كل صبح يلتهم الغول الاسرائيلي المزيد من الاطفال والنساء والرجال والبيوت والشجر والعصافير والفراشات وازهار القرنفل والورد الجوري.
ولعل أقسى المفارقات التي عاشها »المخلوقون« العرب عموما، والفلسطينيون منهم على وجه الخصوص، انهم في الوقت الذي كانوا يتابعون فيه تفاصيل العمليات الارهابية التي اودت بالآلاف من الاميركيين، كانت اسرائيل تقتحم مدينة جنين الفلسطينية وتقتل عشرة من ابنائها، ثم تقتحم اريحا وبعض المخيمات، فلا يلتفت الى الشهداء احد بكلمة عزاء، بل ويضيع خبر اغتيالهم كما الذين من قبلهم على يد ارهاب الدولة الاسرائيلية التي كانت تقدم نفسها في واشنطن في ثياب المدعي العام ضد »الارهاب« وتشدد على توجيه التهمة الى العرب والمسلمين بالمطلق وبغير تمييز، وبحكم إعدام جماعي ضد الفلسطينيين.
سابعة هذه المفارقات واقساها: ان هذا »المخلوق« العربي، او حتى المسلم، يخضع في الغالب الاعم لحكومات تدين بالولاء للولايات المتحدة الاميركية وتخضع لارادتها، في ما عدا استثناءات محددة ومحدودة، وهي حكومات غير شعبية، وبالتالي غير »شرعية«، ولكنها »محمية« و»مدعومة« وممنوع اسقاطها بالأمر الاميركي الصريح، وغالبا ما كانت هذه الحكومات تبرر اضطهادها »لرعاياها« بأنه مطلب اميركي هو المدخل الى المساعدات والهبات والصدقات والحماية الدائمة!
كان هذا »المخلوق« يرى عبر وقائع حياته اليومية الولايات المتحدة الاميركية شريكة لحكامه في اضطهاده، هي تغطيهم وتمنحهم العذر او التبرير، او هي تدير وجهها الى الناحية الاخرى وكأنها »لم رأت ولم سمعت«…
فكيف وبهذه البساطة تنقلب الضحية الى مجرم أشر يجتمع العالم على تأديبه؟!
إن عدد ضحايا الارهاب الاسرائيلي من »المخاليق« العرب، على امتداد نصف القرن الأخير، يزيد على مئة ألف قتيل، خارج إطار »الحروب« الرسمية التي كان القرار فيها، في الغالب الأعم، اسرائيليا، سقطوا تحت ركام بيوتهم او المدارس او الملاجئ او على الطرقات او في الورش الصغيرة والبساتين وحقول القمح المحروق.
أما ضحايا الحكام فسر حربي لا يجوز البوح به حتى لا »يشمت« بنا الاعادي!
لقد صار »المخلوق« العربي هو مصدر الرعب الكوني، يخيفون به الأطفال، ويقدمونه في السينما وكأنه آلة الشر الصماء، يقتل للا سبب، يغش، يكذب، يزور، يسرق، يحتال، يخون الصداقة والامانة… بينما هو لا يعرف أين يختبئ من ظلم الداخل، ومن إرهاب الخارج.
ها هم الآن يرهبون به الدول ويستنفرون العالم لمكافحته هو »العربي البشع«! فتجتمع عليه سيوف الغرب والشرق ويوكل إلى ممثل الحضارة الحديثة، الاسرائيلي، ان ينفذ هذه المهمة المقدسة!
فيا ضحايا الارهاب اتحدوا وإلا ذهبت ريحكم وأبيد جنسكم الشريف، والعياذ بالله!

Exit mobile version