طلال سلمان

مفاضلة بين جمهورية و رئيس

صار انتخاب رئيس جديد للجمهورية وكأنه الموعد الدوري لامتحان قدرة النظام السياسي القائم في وطن الأرز على الاستمرار… بل لقد تبدى، في حالات مشهودة، أن الخيار غالباً ما يتخذ شكل المفاضلة بين الجمهورية و الرئاسة .
ذلك أن انتخاب الرئيس الجديد هو بذاته لحظة التثبّت من صلاحية النظام للتواؤم أو لاستيعاب التحولات والتوازنات الجديدة التي تكون قد طرأت في الفترة بين رئاستين، في منطقة حددت جغرافيتها وطبيعة الأنظمة القائمة فيها وقدرتها على الاستمرار، صراعات الخارج عليها وفيها بالاستناد إلى أو بالتحالف مع قوى سياسية في الداخل ، بغض النظر عن أهليتها أو شعبيتها ومدى قربها أو بُعدها عن ادعاء تمثيلها الأكثرية…
ربما لهذا تسقط المعايير التقليدية المعتمدة في أي نظام، سواء أكان جمهورياً بالفعل أم ملكياً أم أميرياً أم حتى عشائرياً…
أليس كل ما يتصل بلبنان هو شأن دولي ، وبالتالي فإن الحسم هو قرار دولي .
حتى الأمين العام لجامعة الدول العربية اضطر إلى الاعتراف بأن التسوية السياسية في لبنان، الضرورية لقيام حكومة وحدة وطنية (؟!) كمدخل لانتخاب رئيس جديد للجمهورية هي عمارة من أربع طبقات لا يغني فيها المحلي عن العربي ولا الإقليمي عن الدولي، ولا بد من توافق هذه الأطراف جميعاً لإضافة وزير ، فكيف بانتخاب رئيس لهذه الجمهورية المفلسة والمنهكة بخلافات القوى السياسية فيها التي تعكس الصراعات العربية الإقليمية الدولية إضافة إلى المحلية… من دون أن نغفل المجهود الهائل الذي يبذل لتحويل كل ما هو سياسي إلى طائفي ومذهبي، بذريعة أن تلك هي طبيعة شعوب المنطقة !
أفلا يعني ذلك أن اختيار الرئيس في لبنان هو شأن كوني يكاد يعادل في خطورته بقاء الجمهورية أو زوالها… وبالتالي فهو تعاقد دولي إقليمي عربي محلي، يضمن الإقرار باستمرار الجمهورية لمدة سنوات أخرى، اللهم إلا إذا تسبّبت كفاءة الرئيس في استيلاد أخطار جديدة على الجمهورية، أو حاول التضحية بالتوازنات الدقيقة التي تحمي استقرارها ليبقى ولو على عرش من جماجم!.. وقد عرفنا في لبنان مثل هذه التجربة المرّة مرات عدة، يتعذر علينا نسيانها لأن بعض أبطالها يتصدرون قائمة مرشحي أنفسهم للرئاسة ولو على حساب الجمهورية وشعبها العنيد!
وليس تفريطاً بالوطنية أن نعترف بأن أغلب من وصل إلى سدة الرئاسة إنما وصل بالصوت المرجح الخارجي ، وقد كان عربياً ، أساساً، مع وجود شريك بالإكراه دولي. ونادراً ما انقلبت الآية فصار الدولي أرجح نفوذاً وتأثيراً من العربي .
الاستثناء الوحيد هو الذي وقع بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف العام ,1982 والذي قرّر فيه جيش الاحتلال هوية الرئيس ، وتولت الدول وبالتحديد الإدارة الأميركية طمأنة الطرف العربي إلى ما لا يمكن الاطمئنان إليه!
كانت القاعدة، في الغالب الأعم، أقله منذ العام ,1964 اختيار الأضعف من بين المرشحين ، لأن الضعيف ييسّر فرصة الإجماع أو ما يقاربه… في حين أن الأقوى يستنفر كل الأقوياء ، في الداخل والخارج للتدخل، وبالتالي فإن وصول هذا القوي إلى الرئاسة يتحول إلى تهديد للجمهورية لأن الصراع سينتقل بسرعة الضوء إلى تصادم في المصالح سرعان ما ينزل إلى الشارع… بينما الأضعف هو المعبر إلى النجاة من المخاطر!
وطالما أن لا قواعد اشتباك ولا أصول في اختيار شخص الرئيس، وخصوصاً أن البرنامج لم يكن في أي يوم شرطاً من شروط الترشيح، لا قبل الطائف ولا بعده، فإن التوازنات الدقيقة في اللحظة الحاسمة هي التي تسميه!
من هنا تتخذ هذه التوازنات صورة جديدة مع انتخاب كل رئيس…
فبين الرؤساء من اختير حتى لا تكون فتنة…
وبينهم من اختير لأنه الأصلب في مواجهة الشركاء الاضطراريين من الآخرين !
وفي كل الحالات كان بديهياً أن يستعان بالطائفية كصوت مرجح: مرة لأن من اختير هو الأفصح في التعبير عن طائفيته، ومرة لأن من اختير كان الأكثر وطنية لأنه الأقل طائفية …
فالطائفية ناخب كبير، بالسلب أو الإيجاب، باعتبارها تستدر التأييد أو الدعم العربي الإقليمي الدولي: مرة بذريعة طمأنة الطائفة التي تشعر بالخوف، ومرة لطمأنة الآخرين من قوة الطائفة التي تستشعر في ذاتها قوة ليست لها.
… و التوافق على الرئيس ليس مدخلاً إلى الوحدة الوطنية، بل هو ثمرة أو نتيجة لها…
والمماحكة في ضرورة تقديم التوافق على الرئيس على التوافق على الحكومة، ليس أكثر من توسيع الهامش أمام التدخل العربي الإقليمي الدولي، على حساب كرامة الشعب وكرامة الجمهورية أو ما تبقى منها.
وفي كل الحالات ليس شخص الرئيس هو ضمانة الجمهورية أو الوحدة الوطنية فيها، بل العكس هو الصحيح.

Exit mobile version