أحببت دائماً لبنان، كبلد يتمتع بطبيعة رائعة وشعب نشيط، مضياف ولو كان فقيراً، مبدع مستعد لإثبات كفاءته في مختلف المجالات مهما كان مستوى تعليمه، يحب الحياة ويصرف ما في الجيب مطمئناً واثقاً انه “سيدبر حاله” مهما اختلفت الظروف وقست عليه فرص العمل: إن ضاقت عليه اسباب حياته حمل حقيبته واندفع إلى أي بلد يقبله ليبيعه عرق الجبين من اجل أن يبني بيتاً في قريته او يشتري شقة في عمارة سكنية في إحدى ضواحي بيروت، بعدما طردته العاصمة العشوائية، بيروت، من جنتها التي باتت، حصراً، لأصحاب المداخيل المرتفعة… ومعها الرشوات و”شوفة الخاطر”.
أحببت لبنان وكرهت نظامه السياسي الذي يتخذ من الطائفية والمذهبية ركيزة ثابتة لاستقراره القلق. كرهت القيادات الابدية، والزعامات الجديدة التي اثبتت بممارساتها انها اسوأ من الاقطاع وابناء البيوت العريقة الذين كانوا ـ أقله ـ يخجلون من التباهي بثرواتهم، ويتواضعون وهم يستقبلون اصحاب الحاجات، وقد يصحبونهم إلى مكاتب الوزراء “متوسطين” من اجل تعيينهم في وظائف بسيطة يستحقونها بجدارة.
كرهت اصحاب رؤوس الاموال المتكبرين، المتجبرين، مزوري السجلات والافادات العقارية، منتحلي الصفات العلمية التي تأتيهم باحترام العامة والمنافع وتتيح لهم مخادعة الناس والضحك منهم وعليهم.
أحببت لبنان وكرهت الشعارات السيارة من نوع “دبر حالك، والشاطر ما يموت” و”لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم” و”مشيها.. مين راح يحاسبه”، و”انا ومن بعدي الطوفان”، “بوس إيدو وادعي عليها بالكسر”… برغم تفهمي لأسباب هذا الخضوع والقبول بالإذلال في نظام يقدم صاحب “الواسطة” على “المقطوع من شجرة”، ويقدم الطائفية على النزاهة، ويقدم “المدعوم” على صاحب الكفاءة، ولا ينتفض في وجه من يحاول اقفال المدرسة الرسمية او يتساهل ويغض الطرف عن تدني المستوى فيها بسبب من نقص المدرسين او ضعف مستواهم لأنهم نجحوا في امتحاناتهم بشفاعة الكبار.
أحببت لبنان وكرهت تنكر اللبنانيين لهويتهم الوطنية وسعيهم الحثيث للحصول على هويات وجوازات سفر أجنبية، والهرب من مواجهة مسؤولياتهم الوطنية واسباب الظلم والقيادات الابدية التي تجبرهم على الوقوف (بل الركوع امامهم) طلباً لوظيفة حاجب وما فوق.
كرهت في اللبنانيين هذا الخضوع شبه الدائم لقيادات سياسية وصلت إلى مواقعها بإثارة الحساسيات الطائفية والمذهبية ونصبت نفسها كآلهة على الرعايا أن “يعبدوها” والا كُتب عليهم أن يعيشوا الفقر وافتقاد فرص العمل وبناء مستقبلهم الافضل بعرق جباههم.
أعترف أن هذا ما كنت عليه وانا أغرق في يأسي من أن يصحو اللبنانيون فينتبهوا انهم شعب واحد بهموم مشتركة، فالفقر ليس امتيازاً لأولئك الذين لا يجدون قوتهم ثم لا يخرجون على حكامهم وقادتهم الابديين شاهرين سيوف غضبهم، ولا يتراجعون الا بعد تحرير أنفسهم من ربقة العبودية المفروضة وذل الحاجة الذي يخضعهم للمتسببين في اذلالهم.
كنت انظر إلى طوابير “الناخبين” وهم يتوجهون إلى صناديق الاقتراع كالأغنام: يتسلمون اللوائح من “لمرشدين”، فلا ينظرون فيها، بل يمشون إلى الصندوق كالعبيد، دون أن يعرفوا من المرشحين الا صورهم والا تزكية قياداتهم على امثالهم من رعاياها.
منذ اسبوع تقريبا وانا في حالة من الخدر المبهج أسائل نفسي: هل ما أراه حقيقة ام حلم مفتوح على النهار، بل ويصنع النهار والليل معاً، ويُدخلني في حال من النشوة افتقدها منذ زمن. هل تحولت قبائل الطوائف ورعاياها، فجأة إلى شعب واحد موحد، يلتف من حول مطالبه الشرعية بل البديهية غير هياب ولا وجل.. بل أن جمهور المتظاهرين يواجه “الازلام” الذين اوفدوا لإرهابه في الساحات والميادين، فيطردهم بدل أن يطاردوه ضرباً بالعصي وتهديداً في رزقه وارهابا بحبسه؟
منذ ذلك اليوم الأغر الذي خرج محمد البوعزيزي ليفجر الثورة السلمية في تونس انبثق فجر الأمل في داخلي، وشعرت أن يدي تكاد تطال احلامي… لا سميا بعد ما هرب الدكتاتور بن علي وزوجته الراقصة ذات الجواهر إلى حيث لا أمل ولا أحلام، أي إلى ارض النبوة التي ولدت النبي محمد (صلعم) الذي غيَّر وجه الدنيا بالدين الحنيف، وحيث كان الخليفة عمر بن الخطاب يستعير ثوب ابنه ليكمل ثوبه الذي جاء من بيت مال المسلمين حتى يتسق مع قامته الطويلة، ويخرج من كنيسة القيامة ليصلي بعيداً عنها كي لا يأخذها اتباع الدين الجديد بذريعة “هنا صلى عمر”، وحيث كان الامام علي بن ابي طالب يقول:”عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه”؟
صحيح ان تلك الارض المقدسة قد صادرها “الوهابيون” واحتكروا الثروات الهائلة المختزنة فيها، بالشراكة الدونية والخضوع المهيمن للمستعمر الاميركي والمستغل بأبشع انواع الاستعمار (وهو المعرفة بنهب ارض الآخرين واستغباء اهلها واستتباعهم)..
وصحيح ان محمد بن سلمان اعد خطة 2030 للنهوض بالبلاد المحروم شعبها من ثروتها الخرافية، باشرها بعزل ابن عمه محمد بن نايف، وهو جاثٍ على قدميه نفاقاً بينما بديل ولي العهد ( الذي بات سابقا) هو السيف او ارساله الى المعتقل الذي سجن فيه رئيس حكومة لبنان، وربيب السعودية، سعد الحريري، حيث ضرب وأهين مع مرافقيه، ولم يفرج عنه الا بشفاعة الرئيس الفرنسي، والموقف الرجولي الذي اتخذه رئيس الجمهورية في لبنان.
(ها هو سعد الحريري يقدم للغضبة الشعبية انواعاً من البسكويت، مع الحرص على ان تبقى ابواب الدولة مفتوحة للناهبين، في عملية خداع مكشوفة للشعب الغاضب والمفقر الى حد انه لا يستطيع شراء البسكويت)..
بعد محمد البوعزيزي تغيرت تونس: نزل شعبها الى الشوارع فخلع الدكتاتور بن علي…
ثم جاءت مصر ـ بهية ـ ام طرحة وجلابية ـ والدة ثورة يوليو (تموز) 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، ونزلت الجماهير بملايينها الى ميدان التحرير والميادين الاخرى في المدن والقصبات والارياف تنادي بالخبز مع الكرامة.
اصر الشعب الغاضب على البقاء في الميادين اياماً وليالي طويلة، تآخى خلالها المتظاهرون فجاء القادرون منهم بالطعام والشراب الى المعتصمين الذين لم يتعبوا ولم يتصادموا برغم خلافاتهم السياسية والعقائدية وتباينهم الديني (مسلمون واقباط)..
وكان ان تنحى حسني مبارك منصاعاً لأمر الشعب..
وكان ما كان بعد ذلك من حكم الاخوان المسلمين (محمد مرسي الذي مات قهراً في سجنه بعد محاكمة ظالمة وتعنت في تنفيذ الحكم، لينفرد بالسلطة الضابط في المخابرات، عبد الفتاح السيسي، الذي يتهدده مصير سابقيه من السادات الى مبارك مروراً بمرسي..
ونعود الى الحلم الأغر الذي نعيشه هذه الايام الخالدة في تاريخ لبنان.
بفرح غامر اعيشه مع اخوتي في لبنان جميعهم، اشعر اننا نشهد ولادة لبنان جديد، مختلف عما عرفناه من “اللبنانات” سابقاً.
لقد حرر اللبنانيون انفسهم، في صحوة نادرة، من اثقال الطائفية والمذهبية وخلقوا انفسهم من جديد، بعد معاناة وانقسامات مفتعلة وضعت بعضهم في وجه البعض الآخر: فصار الهتاف ضد الرؤساء تغذية للفتنة، بغض النظر عن كفاءة هؤلاء الزعماء الابديين وعن تكبيلهم الشعب بقيود الطائفية والمذهبية.
ولأنهم شعروا بحريتهم فقد نزلوا الى الميادين ببراءتهم ووطنيتهم واحساسهم بالظلم الذي يوحدهم في وجه الزعامات الطوائفية التي توحدت جميعاً مستشعرة الخطر على مواقعها وثرواتها المنهوبة، والخوف من هذا الشعب المجوع والمغبون في حقوقه على دولته التي استولدت قيصريا مختلة التوازن، متنكرة لأهلها بأكثريتهم الساحقة، موزعة المغانم على الزعامات التقليدية او تلك التي استولدتها الحاجة ومخادعة الجماهير بالشعارات الكاذبة (مكافحة الحرمان، الاشتراكية، الحرص على الوحدة الوطنية، الغاء الطائفية استحداث مجلس الشيوخ لإضافة رئاسة رابعة الى الرئاسات الثلاث..)
بين يوم وليلة انكشف المستور، واختفت من الساحات والميادين في ميادين بيروت وطرابلس وحلبا والقبيات، في زحلة وبعلبك والهرمل وسائر البلدات والقرى، في صيدا معروف سعد، وصور الامام موس الصدر، والنبطية حسن كامل الصباح، وحولا وبنت جبيل والجية وسائر مدن جبل عامل وقراه التي هزمت العدو الاسرائيلي، في عاليه وبعقلين وسائر الشوف فإلى جل الديب وجونيه وجبيل في الجبل وصولاً الى البترون التي ينتحل زعامتها جبران باسيل، فإلى طرابلس الشام وزغرتا وبشري وبلدات الكورة، في عكار المغيبة عن الذكر والاهتمام ومشاريع النهوض بالفلاحين والكادحين من شعبها، كما البقاع بغربه وشرقه والبين بين..
أجمل ما في هذا الحلم انه حقيقة تملأ بجماهيرها وهتافاتها الغاضبة ميادين المدن والقصبات والقرى، من ادنى لبنان، على مشارف فلسطين التي يستشهد شبابها ولا يستسلمون للاحتلال الاستيطاني الصهيوني المعزز بالدعم الاميركي المفتوح والخيانات العربية التي تكاد لا تنتهي..
الى اقصاه في الشمال والشرق، على حدود سوريا التي يغرقها الارهاب وقصور السلطة بدماء ابنائها، الذين لم يمنعهم ذلك كله من التصدي لعدوان السلطان التركي.
اجمل ما في الحلم ان الاهالي في لبنان اكتشفوا حقيقة انهم شعب واحد، بهموم واحدة، ومطامح (مصادرة) واحدة، وحقوق مؤكدة واحدة.. وانهم يعيشون في حرمان يتجاوز الخبز الى الحق في وطن، والزعامات الى الحق في المواطنة التي تجعلهم متساوين، والى العدالة التي لا ديمقراطية ولا حقوق من دونها.
الاخطر ان الاهالي في لبنان اكتشفوا انهم من دون دولة جامعة وحاضنة لمواطنيها جميعا.. وانهم رعايا للإقطاعيين الجدد الذين اضافوا الى الثروات الحرام المناصب والمقاعد المذهبة، وحولوا الاهالي الى رعايا بدل ان يكونوا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
على ان هؤلاء الذين خرجوا من وعلى القيد الطائفي وعلى الزعامات الابدية بألقابها المفخمة والمتعالية، قد حرصوا على الدولة ومؤسساتها بافتراض انها دولتهم، فلم يهاجموا فيحطموا مقراً لأية وزارة او مؤسسة رسمية، ولا هم قذفوا بيوت المتسلطين والمتسلطنين من الزعماء الابديين وقيادي المصادفة بالحجارة او بالبيض (ربما لأنهم يحتاجونه لغذائهم) .. واكتفوا بإصدار احكامهم العادلة عليهم: لسنا رعاياكم ولن نكون.
ان الساحات ولادة..
ان لبنان يستولد شعبه الجديد ويدفن زعامات الطوائف وقيادات المصادفة في مزبلة التاريخ.
اننا نشهد ولادة لبنان الوطن.
والأهم ان نحمي أحلامنا ونحولها بالجهد والاصرار والوعي الى حقائق لتكون غدنا الافضل..
الى اللقاء في الشارع الذي اتسع للشعب بعدما توحد!