طلال سلمان

مارون ان حكى

لم يكن الناسك النموذجي »مارون« قديسù أو مرجعù أو منشئù لمذهب جديد في المسيحية حين جاء إلى لبنان،
ولم يكن للبنان كيان سياسي حين استقر ذلك الناسك المتفرّغ للعبادة في بعض أنحائه (وادي العاصي، في البقاع، بداية مغارة الراهب ثم في وادي قنوبين المتدرج نزولاً من أرز الرب في اتجاه الساحل الشمالي)،
لكن الكيان السياسي الذي قام من بعد، في لبنان، أحل »مارون« في مرتبة تتجاوز »الولي الصالح« إلى »شفيع الدولة« تقريبù، وجعل يومه عيدù رسميù، موفرù لطائفته امتيازات، »القائد المؤسِّس« الذي من أجله (ومَن معه) تمَّ ابتداع الكيان والدولة والنظام الفريد.
تفجّرت حروب، وأثيرت فتن، ووقعت مذابح طائفية، واقتتل اللبنانيون عموديù وأفقيù وأمطرت الأحقاد سيولاً من الدماء، لكن أحدù لم يرفع الصوت بالاحتجاج على تعطيل الدولة في يوم من صار الآن »مار مارون«، كعيد رسمي… وفي كل عام يتزاحم أهل الحكم بالمناكب في إحدى الكنائس القديمة الصغيرة في قلب بيروت (المهدّم) للاحتفال بهذا اليوم الذي أخرج من إطاره الطائفي وأضفي عليه طابع لبناني شامل.
وبالأمس، خرج رئيس مجلس النواب من اعتكافه الاجتماعي المعلن طوال شهر رمضان، كما خرج رئيس الحكومة من فراش اعتكافه الصحي ليكونا إلى جانب رئيس الجمهورية وسائر القياديين في مؤسسات الدولة كافة في القداس الاحتفالي، وليستمعوا معه إلى الخطاب المثير الذي ألقاه راعي أبرشية بيروت للطائفة المارونية المطران خليل أبي نادر، تحت عنوان »مارون اليوم ان حكى«…
والمطران أبي نادر ذكي العبارة، مشبعة كلماته بالايحاءات، واللفتات التي كمثل شخصه تقول عبر الدماثة والرقة ما لا يقوله أعظم الأصوات جعجعة:
»ومارون اليوم إن حكى، ليقول: يعطي لبنان الغد للذين يحلمون به حرù بهيù«.
والحلم يتمدّد مستكملاً معناه حين يؤكد المطران أبي نادر »حلمنا عائد. لا تسرقوا منا الحلم في الوطن المسروق منذ سنوات«.
وبين الاستشهاد بأبيات من الشعر الفلسفي لأبي العلاء المعري »في اللاذقية ضجة، ما بين أحمد والمسيح« وبين الاستشهاد بقول عيسى المسيح »أعطوا ما لقيصر لقيصر وما ” “«، يستخلص المطران أبي نادر ما يريد أن يوجهه إلى »المسؤولين الأعزاء«: »لأنتم قيصر، ولأنتم القادرون لمثل جهاد الرسل في سبيل مجتمع مدني متكامل، لا طائفي هو لبنان«.
ولكي يضمن أن رسالته وصلت، يؤكد مطران بيروت على استهدافات محددة، أبرزها:
} قفزة تاريخية، ويقظة وطنية، وجرأة روحية في حوار صريح لوفاق وطني أبعد من وثيقة »الطائف« ومن كل طائفة، وما ذلك إلا بقبول التعددية والتنوع لدور حضاري.
} لا أكثرية ولا أقلية، بعد، كلنا مواطنون… لا خلل، بعد، في التركيبة اللبنانية، بين الطوائف، لا حركات أصولية، بل كفاية ومساواة، حقوقù وواجبات.
} لبنان هو البلد الوحيد، في العالم العربي، لا دين فيه للدولة، ولا طائفة ملزمة لرئيس الدولة.
جميل أن يُقال هذا الكلام في عيد مار مارون، وفي وجه الدولة التي خرج أركانها من عطلة العيد لكي يحضروا القداس، والذين هم في مناصبهم بحكم انتماءاتهم المذهبية، وليس فقط بانتمائهم الديني.
وأجمل أن يختار المطران أبي نادر من بين وصايا عيسى المسيح تلك التي تقول لحكامنا، في أيام عصيبة كهذه: »كونوا حكماء كالحيات، وودعاء كالحمام«…
وأغلب الظن أن المعنيين يمكن أن ينسجموا مع التوصيف الأول أكثر منهم مع التوصيف الثاني… وعلينا أن نصبر، و»صبرنا دين هو لا طائفة«، من أجل بيروت التي »سنبنيها من جديد ولن نرحل، وتبقى لنا بيروت، ويبقى لبنان. وبعد، مارون إن حكى«؟!
وعلينا أن نصبر أكثر لنحقق كلمة البطريرك حويك حين عاد من مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919: »في لبنان طوائف. نريده طائفة واحدة اسمها لبنان!«.
أما كلمة »كبير لبنان في التاريخ« رياض الصلح، فقد تحققت وما تزال محققة: »في الدول العربية رؤساء وملوك كلهم مسلمون. لنا في لبنان، الدولة العربية، رئيس جمهورية مسيحي ماروني. تلك ميزتنا ورسالتنا في عالمنا العربي، وهذا يعني الكثير للعرب والعالم…«.
هل يذهب مطلب إلغاء الطائفية السياسية، بمضمونه الوطني، إلى أبعد مما قصدته كلمة السيد المسيح »ما لقيصر لقيصر وما ” “«؟!
وإذا كان المطران أبي نادر يقول كلمته متمثلاً »مارون إن حكى«، فهل يعني ذلك أن »قيصر« هو المتشبث بالطائفية السياسية؟!
في أي حال، لا فض فوك أيها المطران الأريب الذي يعرف كيف يحكي المحظور من الكلام!

Exit mobile version