من الطرائف اللبنانية، والتي يمكن ان تسلّي الصائم، أن يتزامن طرح معضلة إلغاء الطائفية السياسية مع طرح موضوع النفايات السامة المشلوحة في أرض لبنان، ساحلاً وجبلاً وصولاً الى قلب الاحياء السكنية في العاصمة بيروت.
وما يجمع ان »الدعوى« في القضيتين هي ضد مجهول معلوم أو معلوم مجهول، أو انه مجهَّل بالعمد والقصد المقصود،
ففي الطائفية السياسية يبدأ النقاش بالنصوص وضرورة تعديلها ولكنه ينتهي بالنفوس واستحالة تبديلها، فيظل الملف مفتوحù ويتداخل المدعي بالمدعى عليه، ويقفز »المتهم« من قفصه ليأخذ بتلابيب »القاضي« وكأنه هو الجاني، ولا تتوقف الحرب الا وقد استقر كل طرف في قلعته الطائفية محصنù بمذهبيته التي تكتسب الآن قداسة قاتلة،
وفي حالة النفايات السامة يغض الجميع الطرف عن البدايات والمسؤوليات، بما فيها الصمت عن ادخالها وتوزيعها بالعدل في مختلف المناطق، فلا يتبقى من متهم الا البراميل ذاتها… ربما لهذا تتحقق »الوحدة الوطنية« في الهجوم الشامل والكاسح، فاذا المطارنة والقسس والمشايخ والوعاظ اضافة الى السياسيين، حاكمين ومعارضين، يتلاقون في الميدان وقد لبسوا عدة الحرب وهم يتصايحون: ا”، ا”، في اعداء الشعب!! خذوهم بالشدة فلا ترحموهم!! لا اسرى ولا جرحى!.. وليعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون!!
اذاً، فالمطلب في الحالين هو »تخليص« لبنان واللبنانيين من هذه السموم الفتاكة، وسواء أكانت في النصوص ام في النفوس، أم في البراميل الملونة، والتي لا يعني اجتماع الأضداد في الهجوم عليها سوى انهم جميعù متفقون على حمايتها واستبقائها لانها علة الزعامة ومصدر النفوذ واداة الاستقطاب الشعبي،
ثم ان هذه »السموم« السوداء أو البيضاء هي منجم ذهب أو دجاجة بيضها من ذهب: فهي جلابة للزعامة وللعز وللمال أيضù. وبالتجربة الحسية فان معظم الذين تصدروا طوائفهم ومذاهبهم في المسيرة المظفرة لالغاء الطائفية السياسية هم الآن بين أغنى الأغنياء في لبنان.
ومن نافلة القول أن من اغتنى من هذه »السموم« لا يشمله قانون الاثراء غير المشروع، ولا يسأله أحد: »من أين لك هذا«، ولا تطاله يد العدالة التي ظلت دائمù أقصر من »أياديهم« البيضاء، أو »تحت« أياديهم الثقيلة!
* * *
هي مواسم، كصيد الفري والحجل والبط، أو جني الزيتون أو تلقيح النخيل!
فجأة وبغير سابق انذار ينتبه زعماء الطائفية السياسية الى حقيقة ان الطائفية السياسية ما تزال قائمة، والى انها تشكل خطرù على الوطن والمواطنين، وان أسلافهم قد قصروا في السعي لالغائها، فيصيحون: يا للهول!! اليَّ بالسيف!!
… ويهجمون على الطائفية السياسية في الضفة الأخرى، ويعلو الغبار، وترتفع ألسنة النار، وتشرئب الأعناق وتبلغ القلوب الحناجر، وينجو كل بنفسه مذهولاً وقد تنسى المرضعة وليدها…
ولا تتوقف الحرب حتى يعترف الكل بالكل، ويتوطد الحلف المقدس بين الزعماء الأكثر عصرية للطبعة الجديدة من الطائفية السياسية لابتناء »جمهوريتهم« هم، على قاعدة »لبنان وطن نهائي«، و»من لم يكن طائفيù أو مذهبيù فليس منا«، وتنزل النفوس الى النصوص وتصعد النفوس الى النصوص، وتقوم حكومة المصالحة الوطنية الجديدة في عهد الخلاص الوطني الجديد وقد تعانق الصليب والهلال وتزاوجا فأنجبا »الترويكا« العلمانية!
كذلك الأمر بالنسبة للنفايات السامة…
فهي قد »أُدخلت« على مرأى ومسمع من هؤلاء المستهولين الأمر الآن جميعù،
كان معروفù من ادخلها، وأين »شلحها« أو زرعها؛ من استأجر البواخر، ومن قبض العمولة، ومن احتسب له ثمن سكوته، ومن تواطأ لتعطيل القضاء،
ولقد سال حبر كثير على الصفحات الاولى من الصحف، وبينها »السفير«، وطوال شهور ابتداء من العام 1988، ونشرت شهادات لعلماء وأطباء وخبراء، كما اذيعت شهادات شهود عيان موثقة بالصور وأسماء الأمكنة والتواريخ وألوان البراميل وجثث ما نفق من رؤوس الماعز،
لكن التوقيت كان غير ملائم، في ما يبدو، لمن يريد استثمار تلك السموم في معركة رئاسة الجمهورية، أو التمهيد لانقلاب من داخل النظام على أهل الحكم فيه.
اليوم، وقد اختلف الزمان، قرر الشيطان الأخرس أن ينطق، وفتح المعركة على مصراعيها حتى أوصلها الى المجلس العدلي… لتقيد ضد مجهول!!
* * *
هل هي معركة واحدة أم معركتان؟!
هل الميدان هو، مرة أخرى، رئاسة الجمهورية؟!
وهل انقسمت الفعاليات جبهتين: أولاهما تهجم بالطائفية السياسية لتسقط بعض من لا بد من سقوطهم، وتفتح الباب لمرشح أو مرشحين معينين، والثانية تهجم بالنفايات السامة لتوصل بقوتها مرشحù أو مرشحين آخرين، أو لتحمي وجود الموجود ولو بالتمديد، في انتظار العهد اليهودي الجديد؟!
التوقيت لافت الى حد انه يثير الريبة.
فلا الطائفية السياسية ولدت اليوم ولا هي مهددة بالموت غدù،
ولا النفايات السامة وصلت الى لبنان قبل ساعات ولا سيمكن اخراجها منه قبل غياب الشمس،
ثم أن طرح الموضوعين لن يؤدي الى علاج المحبطين أو الى محاسبة المتاجرين بالسموم وصحة اللبنانيين.
ربما لهذا كله تتجه التفسيرات، بالريبة، الى تخمين مقاصد أخرى،
لكأنما القصد اظهار اللبنانيين وكأنهم شعب معاق، لا أمل في شفائه، ولا بد من ان يتعايش مع مرضه، الطائفية السياسية، بما يلغيه كشعب وكإرادة وكقدرة على التطور والتغيير.
لا انتخابات في ظل الطائفيات والمذهبيات المقننة مواقعها بحكم الدستور،
واي انتخابات تجري ستكون شكلية ومحكومة النتائج سلفù بالصفقة الجديدة بين القيادات الطائفية والمذهبية السائدة،
كذلك فان إثارة موضوع النفايات السامة تكشف عجز الدولة وقصور إداراتها وانعدام قرارها،
لا شعب، ولا دولة،
فلماذا الانتخابات والرئاسات والجمهوريات ذوات الأرقام؟!!
* * *
الأخطر أن الجميع يبدو متلبسù في التآمر على القضاء،
انهم يرمون على القضاء نفاياتهم السامة جميعù، طائفية ومذهبية وبراميل مستوردة، ثم يطالبونه بأن يعوض عن غيابهم وعن تقصيرهم المفضوح!
انهم يريدون منه أن يزيل آثار الجريمة ويمنحهم صك البراءة ويعيد تزكية زعاماتهم!
فمعظم »القضايا« التي يحيلونها اليه تصل الى القضاة مقطعة الأوصال، مبهمة الأسباب، مطموسة التفاصيل، مجهلة الفاعل.
أي انهم يتواطأون، داخل السلطة وخارجها، على القاضي، ثم يطلبون منه ان يحكم بالعدل، وان يعوض عن غيابهم وعن تخليهم عن مسؤولياتهم، بل وان يعيد تركيب الملفات الممزقة… أو أن يكون المقبرة التي تدفن فيها أسرارهم الى الأبد،
وهكذا يصيرون رؤساء.. بأحكام قضائية!
وقديمù قيل: العدل أساس الملك،
يحيا العدل!
أما الانتخابات، رئاسية وبلدية ومن ثم نيابية، فلها حديث آخر!