هل يمكن، بعد هدوء العاصفة المهرجانية التي غطّت يوم 14 آذار، إجراء تقييم سياسي »هادئ«، ليس لما جرى بل لما ستكون عليه نتائج أو دلالات ما جرى مستقبلاً..
لنبدأ بالشأن الداخلي..
في العمق لم يكن كما لم يعد دقيقù القول إن »الدولة« ذهبت إلى الجنوب في 14 آذار.. وبالتالي إن »الدولة« عادت منه إلى بيروت بعد الظهر.. فبهذا المعنى لم يعد الجنوب مكانù سياسيù خارج الدولة.. تحاول أن تشدّها زعامات الجنوب إليه، إما بالموالاة، وإما بالمعارضة، أو بكليهما معù، كما كان يحصل في السابق.
اليوم، ومع التحولات التي تكرّست، أصبح »الجنوب« (أي المدرسة السياسية التي تتولى أمره) هو »الدولة«.. أيù يكن رأينا بما أصبحت عليه هذه الدولة، إنه الجنوب التمثيلي صاحب حصة رئيسية جدù في السلطة السياسية، وفي مؤسساتها الدستورية.
وبقدر ما يمثل التسليم بهذه المعادلة الجديدة تسليمù بتحوّل نوعي كبير، فهو يطرح مسؤوليات عليه.. أي على الجنوب، إنه هذه المرة مسؤول عن نفسه أي شريك في مسؤولية ما ستؤول إليه الأوضاع.. يتحمّل القائمون عليه من مختلف المواقع، وبينهم رئيسا برلمان وحكومة، عبء المحاسبة المباشرة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عن أوضاعه… إنه أي الجنوب اليوم، مثل جبل لبنان في »الجمهورية الأولى«.. فهل كان يمكن أن يرمي جبل لبنان على غيره مسؤولية عدم تحقيق مطالبه فيما لو لم تتحقق؟!
الحرمان.. التوحيد.. لم يعد »شكوى« تُرمى على الآخر فقط، بل أصبح »ملفù« بين أيدي أبنائه أصحاب النفوذ الجديد.
لا يعني الأمر أن »الجنوب« (والكلام يحمل دائمù المعنى الرمزي الى رجال وقوى العهد الحالي) حل مكان »الجبل«.. هذا ما لم يحدث في ظل توازن القوى الراهن لمجمل الوضع اللبناني ومرجعياته.
وليس أكيدù أنه سيحدث.. أقله في المدى المنظور.
لكن ثمة تحولاً مهمù، على الأقل على مستوى »إيديولوجية« الدولة إذا جاز التعبير: فهذه الدولة تأسست على خطاب مناعة الجبل، العام 1920، وتكرّس الخطاب في البرامج التربوية التي درستها أجيال مختلفة ومتعاقبة.
14 آذار هو إعلان تكريس انتقال »الايديولوجيا« (على الأقل حتى تحرير الأرض من الاحتلال الاسرائيلي) إلى خطاب »جنوبي«؟!
إنه سؤال يفرض نفسه.
وهذا جيد وخطير في آن: جيد في أنه يحاول توحيد الداخل ضد الاحتلال، كما يحصل في كل دول العالم التي تواجه الغزو الخارجي، وخطير في أنه يطرح تحديات مستقاة من التجربة »الجبلية« السابقة لخطاب الدولة حول المناعة:
فلا يكفي التدريس في المدارس والتركيز الإعلامي اليومي لكي يصبح الخطاب موحدù، لا في وظيفته ضد الاحتلال (فهذا بديهي) ولكن في وظيفته الوطنية، أي في التخاطب بين اللبنانيين.
ألم تكن »الحروب الأهلية« التي شهدناها لاحقù بين 1958 و1990 إعلان فشل المهمة التوحيدية للإيديولوجيا الجبلية الرسمية للدولة؟
لهذا، فالسؤال الشجاع والواعي من الآن يجب أن يطرح وقائيù السؤال نفسه حول الخطاب »الجنوبي« ونتائجه المستقبلية، لكي يمكن أن يكون توحيديù فعلاً.. خصوصù بعد زوال الاحتلال إذا أسفرت العملية السلمية الجارية في المنطقة عن تسوية مشرّفة تكفل التحرير التام للأرض المحتلة..
وهنا نكون قد وصلنا إلى »الوظيفة« الإقليمية ل14 آذار، بعد أن رسمت الادارة السورية لمساري التفاوض اللبناني والسوري مع الولايات المتحدة وإسرائيل قاعدة ثابتة لأي تسوية: هي الانسحاب الكامل من مناطق الجولان والجنوب والبقاع الغربي المحتلة، ودعم المقاومة اللبنانية، وعنوانها »حزب ا”« حتى تبقى هذه القاعدة ثابتة ونهائية. بكلام آخر: المقاومة في خدمة هذا الخط التحريري تنتهي بانتهائه.
14 آذار بهذا المعنى تأكيد لإمكان الحماية الشعبية لتسوية من هذا النوع.. وبسبب هذه الدلالة يمكن فهم تنافس الرسميين والسياسيين على تصدّر الصورة الاعلامية في ذلك اليوم.
التنافس لا يعنينا من زاوية الحسابات المحلية للأطراف.. ولكن من زاوية ما يعكسه من إحساس لديهم بمدى »التعويم« الذي تمنحه الدلالة الوطنية والاقليمية ل14 آذار.
لهذا كان مسرح النبطية يتسع في وقت واحد »للدولة« الجنوبية، ولمعارضتها »الجديدة«، ممثَّلة ب»حزب ا”«، والتي لم تعد وافدة أو طارئة أو متهمة بكونها »جالية أجنبية«… بل ان هذه المعارضة هي أيضù ذات »لكنة« جنوبية.
لم يعد »حزب ا”« بديل الدولة، التي تضطر الآن لأن ترتدي ثياب المقاومة مفسحة له مكانù شرعيù حتى داخل خطابها الرسمي، مسلِّمة بضرورة التعايش معه.
والخطاب موجّه إلى الولايات المتحدة الأميركية التي تذكرها »الدولة« الجنوبية بأن مندوبها في مجلس الأمن هو بالذات من تقدم بمشروع القرار 425، وأن المقاومة نشأت نتيجة لإهمال تنفيذه وانتقال السياسة الأميركية الى الموقع الاسرائيلي، وبالتالي فقد استمر الاحتلال يستولد نتائجه ويفرضها على الواقع اللبناني.