بين »اعتصامات الخارج«، على تنافر المشاركين فيها من أحزاب الطلاب وطلاب الأحزاب ونقباء النقابات ونقابات النقباء والمتشوقين إلى ديموقراطية الشارع بعدما أقفل شارع الديموقراطية،
.. وبين مناقشات الداخل النيابي بما اتسمت به من حيوية، على محدودية عدد المشاركين في الجولات المهمة منها، ومشاعات الجدل التفصيلي واللفظي التي اقتحمتها الكثرة الخرساء لتزيين الشاشات بطلعاتهم البهية،
بين اعتصامات الخارج، التي تتخذ طريقها لأن تصبح ظاهرة، ومناقشات الداخل التي ذكَّرت بما كان في أيام العز الديموقراطي، استعاد المجلس النيابي شيئا من روحه الهائمة والمضيّعة عبر الأيدي الجاهزة للارتفاع بالموافقة الآلية »غبّ الطلب«.
وتستحق تلك الكوكبة من نواب المعارضة، وبالذات أعضاء »اللقاء النيابي« ومعهم المعارضون بالاحتراف، التنويه بدورها المميز ليس فقط في إنعاش الحياة البرلمانية التي كانت في غيبوبة إن لم نقل في حالة موات، بل في إشاعة مناخ »سياسي« بينما كانت المناخات الطائفية والمذهبية تكاد تكتسح أجواء الجدل الدائر حول كل شيء، إلى ما قبل أيام.
إن نفراً من النواب، لعله لم يتجاوز عدد أصابع اليدين، قد تمكن من استحضار المجلس من غيابه، وساهم في إنقاذ سمعته ودوره، وعوَّض خرس الكثرة من النواب أو تشاغلها في ما لا يشغل أو انصرافها عن المهم والمفيد إلى ما لا يهم الناس أو يفيدهم.
كذلك تستحق هذه الكوكبة تحية خاصة من رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري لأسباب عديدة أبرزها انها جعلته رئيسا لحكومة غائبة وخائبة، يكاد ينكرها هو بقدر ما ينكرها الناس وأكثر، وأكدت على مسؤوليته الوطنية حتى وهي تنتقد بعض وجوه الأداء الحكومي، ونوّرت طريق »ديمومته« من خلال التسليم بضرورة استمراره، ورشَّدت العديد من قراراته، لا سيما المالية منها.
أما بالنسبة للمواطنين فإن هذه الكوكبة من المعارضين المدققين والمصححين والمنبهين إلى الخطأ، قد عرَّفتهم بما لا يعرفون، ووفرت لهم الخريطة الصحيحة للدخول الى غابة الأرقام حيث تتشابك أحيانا الأهداف مع الطموحات مع الإمكانات المحدودة، وتتلاطم الأولويات على ضرورتها مع العجز المتزايد بتزايد ما يذهب من موارد ضعيفة لخدمة الدين العام وفوائده الهائلة التي تتوالد من ذاتها..
لقد وفرت المعارضة النيابية الفرصة للاطمئنان إلى أن »مراجعة التجربة« قد بدأت انطلاقا من الاعتراف بأن ليس كل ما اشتملت عليه كان صحيحا، واستباقا لمخاطر داهمة مصادرها في الداخل بأزماته، وفي الخارج بضغوطاته الثقيلة وعنوانها الاحتلال الإسرائيلي والانشغال الأميركي بالذات، هذا إذا ما افترضنا أن الرئيس المحاصَر بالفضيحة ما زال قادرا على منازلة »نتنياهو الجبار« وإلحاق الهزيمة به لاحياء »العملية السلمية« المعلنة وفاتها منذ حين.
لقد كان النقاش حول موازنة 1998، وبمعزل عن دلالات الارقام، حيويا بمجمله ورصينا، لا إسفاف فيه ولا ضغينة، لا أغراض شخصية ولا غرائز طائفية، وباختصار فإن الكلام ظل يأخذ طريقه الى اللبنانيين جميعا وليس الى فئة منهم.
المفارقة ان نواب الايدي المرفوعة غب الطلب كانوا يسهمون بإلغاء المجلس والحكومة معا، كمؤسستين دستوريتين، في حين ان المعارضين هم الذين استحضروا هاتين المؤسستين من خلال »المحاسبة« وليس من خلال النفاق المتبادل.
ونتيجة لذلك لم تعد جلسات مناقشة الموازنة قراءات بليدة لأرقام متشابكة ولا يفهمها إلا الراسخون في العلم، تنتهي بكلمة »صُدِّق« التي طالما ألغت مع العقل والنقاش المجلس ذاته ودوره البديهي في حماية الديموقراطية والمال العام وحق المواطن في ان يعرف ويفهم ويطمئن الى يومه وغده.
تبدت الحكومة شخصا واحدا هو رفيق الحريري يساعده »مترجم« ويشاغب عليه بعض وزرائه الفصحاء…
أما المعارضة النيابية فقد أثبتت وبالملموس أن المعارضة السياسية الملتزمة بقواعد الديموقراطية والسلامة الوطنية والمسؤولية عن المال العام، وإجمالا بالنظام وبالدولة، لا تضر بالنهوض الاقتصادي، ولا تعطل الانماء، ولا تحمي فساد الادارة، بل هي تعزز قدرة الحكومة على الانجاز بالنقد حيث يتوجب وبالترشيد حيث يفيد وبالحوار المفتوح على المصلحة العامة، وهذه ضرورة في كل الحالات.
ان المواجهة بالحوار الديموقراطي وبروح المسؤولية وبالشفافية التي تقدم للمواطن الحقائق، مهما كانت قاسية، تمهد وتسهل المواجهة وتساعد على خلق مناخ من التكاتف الوطني الضروري جدا لتجاوز الازمات المعيشية والاقتصادية والسياسية… وهي ازمات تزداد حدة وتصبح بؤرة صالحة للاستغلال وربما للتفجير من طرف الاحتلال الاسرائيلي، او من طرف »قوى الضغط« المنزعجة من صمود لبنان ومن تعاظم المقاومة فيه كما من التزامه بوحدة المسار (والمصير) مع سوريا، في هذه اللحظة الحرجة جدا، على المستوى الدولي، وبالذات على الاحتمالات المفتوحة على المخاطر في ظل تعاظم تيار التطرف والهوس بالقوة لدى العدو الاسرائيلي.
ان المناخ الديموقراطي هو الذي يفرز القوى ويكشف »معارضة النظام« ويعزلها في »منافيها«، ويوفر القاعدة لعلاقة صحية بين الحكم ومختلف القوى السياسية التي قد تعارض اداءه ولكنها تعرف انها معه في زورق واحد، فلا تعمد الى ثقب الزورق، بل تنبهه وتساعده بما تعرف حتى لا تغرق معه.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد تبدى سليم الحص، في لحظات كثيرة، وكأنه في موقع المسؤول، كرئيس حكومة وأكثر، في حين لو قال رفيق الحريري كل ما يريد قوله في حكومته لتصدّر المعارضة… بغير منازع!