تعوَّد الناس في لبنان أن تكون »المعارضة« سلّماً للحكم، وأن تعتمد المزايدة أو المناقصة حسب المواسم وسيلة لإحراج الحاكم حتى إخراجه وتسنّم السدة بوصفها البديل المنقذ!
فالسياسيون لاعبون محترفون، فرديون في الغالب الأعم، برامجهم في أشخاصهم: النسب والحسب والجاه الموروث أو المال المكتسب، أو محاباة أصحاب السلطان، ودغدغة المشاعر (والغرائز أيضا)، والتشهير اليومي بالسلطة القائمة وإظهار عجزها أو فشلها أو بعدها عن مطالب الناس وهمومهم الثقيلة.
قلة من السياسيين كسروا هذه القواعد فدخلوا قلوب الناس ثم لم يخرجوا منها لأنهم ظلوا في موقع »المعارضين« حتى لو اضطرتهم الظروف إلى دخول جنّة الحكم مؤقتاً وفي ظروف استثنائية.
الأبرز والأبقى من هذه القلة: كمال جنبلاط وريمون إده.
وإذا ما استثنينا كمال جنبلاط، بسبب من اختلاف الظروف، ظروف الحضور والغياب، أمكن أن نقول بغير تحفظ انه ندر أن ودّع اللبنانيون (الذين لم يعرف عنهم، بمجموعهم، الثبات على المبادئ أو العقائدية في التعاطي مع الشأن العام ومع قياداتهم التاريخية منها والطارئة) فقيداً من أهل السياسة بمثل ما يودعون هذه الأيام العميد الراحل ريمون إده.
إن مشاعر الأسى تكاد تشمل الجميع، مَن عرف ريمون إده ومَن لم يعرفه، مَن كان له صديقا ومَن اختلف معه غالبا أو دائما، مَن رفض بعض آرائه وأخذ عليه الكثير من مواقفه ومَن قبل منه كل ما يقول بغير نقاش.
ولعل هذا التوافق في المشاعر يؤكد حقيقة بسيطة مفادها أن »المعارضة«، كموقف، أقرب إلى وجدان الناس من الحكم، عموما، وبغض النظر عن مدى صلاحه أو كفاءته أو نجاحه في تلبية احتياجات مواطنيه أو تجسيد تمنياتهم.
وصحيح أن »نصف الناس أعداء لمن وُلِّي الأحكام، هذا إن عدل«، لكن الصحيح أيضا ان ليس كل الناس، ولا نصفهم، مع »المعارض« سواء أعدل أم لم يعدل، وسواء أكان يعارض لغرض أو مصلحة أو طلبا لمكانة أو »زعامة« توصله إلى الحكم.
فمحاسبة »المعارض« أقسى، عادة، من محاسبة الحاكم… ربما لأن الناس يفترضون أن المعارض أكثر حرية وأكثر قربا من الناس ولا طريق له إلا عبرهم وبتبني مطالبهم.
ولهذا تتهاوى »زعامة« المعارضين مع »اعتدالهم« عندما يضعون أقدامهم على الدرجة الأولى من السلّم الذي يحملهم إلى سدة السلطة.
.. الا ريمون اده، الذي بنى حضوره السياسي عبر تاريخه الطويل على معارضة لا تطلب السلطة ولا تضعف امامها، وربما كان بين »مزاياه« التي عصمته عن الموالاة وطلب الحكم انه مارس السياسة كهاو حتى وهو بين عتاة المحترفين.
ربما لهذا فقد ندر ان حظي رئيس في السلطة او رئيس سابق او »زعيم« تقليدي، بمثل هذه العاطفة وهذا التقدير شبه الشامل الذي يظهره اللبنانيون هذه الايام وهم يودعون عميد المعارضة الدائمة ريمون اده.
ان الاسباب الدافعة للاعتراض والمعارضة، بل الثورة، في اي بلد عربي اقوى بما لا يقاس من عاطفة الولاء او التأييد للقائم بالامر، هذا ان عدل.
الطبيعي ان يكون المواطن العربي »معارضاً« ان لم يكن بسيفه فبيده، او بقلبه او بلسانه وهذا اضعف الايمان.
وواضح ان اللبنانيين مثلهم مثل سائر العرب معارضون بأضعف الايمان!
يبقى ان نذكر ان بعض كبار العرب عاشوا في وجدان الناس بوصفهم معارضين وليس كحكام يستوي في ذلك احمد بن بلة في الجزائر وصالح بن يوسف في تونس والمهدي بن بركة في المغرب… اما المشارقة فكثيرون حتى ليستحيل حصرهم.
رحم الله المعارض الذي ظل أقوى من السلطة، بينما عاش الى جانبه في باريس »معارضون« »شفطوا« من خيرات التسلط ما امكنهم »الشفط« ثم التفتوا يطلبون مجد »المعارضة« لكنهم ظلوا اصغر من هذه ومن تلك لان اغراضهم اقبح من ان تغطيها طهارة مدعاة بينما روائح مآثرهم وأشباح ضحاياهم تملأ عليهم غرف النوم والشوارع الفسيحة.