لم تعد مسؤولية الإدارة الأميركية عن هذه الحرب الإسرائيلية على لبنان موضع نقاش، لا على المستوى الدولي، ولا حتى على المستوى العربي، بشهادة ملكية سعودية، فضلاً عن المستوى المحلي، وبغض النظر عن بعض المماحكات أو الأوهام التي تنتجها مخادعة النفس أو الافتراض أن لبنان الجديد هو صناعة أميركية.
المواقف الرسمية الصادرة عن الإدارة الأميركية، برموزها العليا، قاطعة في وضوح مسؤوليتها عن تحويل الاشتباك الذي كان مقدراً وقوعه بعد أسر الجنديين الإسرائيليين، إلى حرب، ثم عن إدامة هذه الحرب وتأجيج نيرانها بحيث تكاد تحرق لبنان كله، فضلاً عن تعطيل أو عرقلة الجهود الدولية الهادفة إلى وقف إطلاق النار، أو حتى وقف العمليات العسكرية ، التي تتصدّرها فرنسا وتتحمّل بسببها انتقادات أميركية حادة، تكاد تصنفها بين أنصار حزب الله … اللهم إذا أدرجت هذه الانتقادات في سياق الانتقام من الموقف الفرنسي من التورط الأميركي في حرب احتلال العراق، من خارج الشرعية الدولية، وبرغم أنفها، أو إذا رأى فيها آخرون توريطاً لفرنسا يهدف إلى إفقادها مكانتها الخاصة في لبنان ويستعدي عليها إسرائيل في الوقت عينه.
آخر ما يؤكد هذه المسؤولية الأميركية عن الحرب الإسرائيلية وإدامتها هو القرار بإيفاد مساعد وزيرة الخارجية ديفيد ولش إلى المنطقة، مع محطة في بيروت، للبحث في التطورات الجارية..
وديفيد ولش معروف جيداً من اللبنانيين بمواقفه العدائية لكل من لا يرى مستقبل لبنان أميركياً.. وبديهي أن يكون رافضاً لمبدأ المقاومة، وبالتالي ل حزب الله ، ولكل مَن لم يقبل بالصيغة الأميركية ل دمقرطة لبنان، وتطويعه بحيث يتولى مباشرة حراسة حدود الكيان الإسرائيلي تحت عنوان تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وبالذات منها القرار .1559
وإذا كانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندليسا رايس قد سمحت لنفسها بأن توجه انتقادات حادة (حتى لا نقول إهانات) لأركان جماعة 14 آذار عندما استدعتهم إلى لقائها في سفارتها في عوكر، حين قدمت إلى بيروت قبل تل أبيب، لتلقي على لبنان شبهة المباشرة بالحرب، فإن ديفيد ولش قد أعطى نفسه في أكثر من مناسبة حق الادعاء بأنه إنما ينطق باسم ثورة الأرز ، على طريقة السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة جون بولتون… ومن شابه أخاه فما ظلم.
لم يكن ديفيد ولش يوماً، في نظر أكثرية اللبنانيين، موفد سلام… فهو يرفض التعامل مع هذه الأكثرية وقبول منطقها، ويصر على مواجهة موقفها الوطني بمحاولة محاصرتها بشبهة العلاقة مع سوريا واستطراداً مع إيران… وهذه حيلة مكشوفة: كل من رفض الهيمنة الأميركية يصير إخراجه من موقعه الوطني ليتهم بالتبعية لمن يخاصم السياسة الأميركية…
وبمعزل عن كافة هذا المنطق الذي يحاول تصوير كل من يتصدى للاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم للحرب الإسرائيلية الجديدة، عدواً للحضارة الغربية وللديموقراطية ومناصراً للإرهاب، فإن إيفاد ولش بالذات سيفهم كرسالة لإسرائيل بأن تطيل أمد حربها ضد لبنان وشعبه ومؤسساته، وبأن تكمل الإجهاز على ما تبقى من بنيته التحتية ومرافقه العامة… (وهي أمس بالذات دمرت آخر أربعة جسور كانت قد نسيتها في غاراتها السابقة… ولم يتبق على حد ما يتندر بعض الظرفاء إلا جسر اللوزية الذي تغني له السيدة فيروز، ولعل الطيران الإسرائيلي يبحث عنه، بعد..).إن الإدارة الأميركية تراهن عبر الحرب الإسرائيلية على استيلاد قرضاي لبناني. وهو رهان سخيف، فضلاً عن أنه استفزاز بالإهانة لشعب لبنان وحكومته ومسؤوليه وساسته كافة.
والمؤكد أن لبنان، خصوصاً وهو يعيش مجد الصمود والمقاومة الباسلة للحرب الأميركية التي تشنها عليه آلة الحرب الإسرائيلية، بأسلحتها كافة، فترتكب المجازر يومياً قتلاً للأطفال والنساء وتدميراً للمدن والقرى وأسباب الحياة، لا ينتج عملاء من طراز قرضاي الأفغاني. والتجارب تدل أن لبنان في مواجهة الاجتياحات الإسرائيلية قد أنتج قادة وطنيين من طراز صائب سلام ورشيد كرامي وسليم الحص ورفيق الحريري، ممن وقفوا مع شعبهم في التصدي للاحتلال والمحتلين وضعاف النفوس الذين ارتضوا أن تنصبهم دبابات المحتل في مقاعد السلطة لتكون فتنة تغطي الاحتلال ولكنها لا تغطي الحقيقة، وقد ترجئ المحاسبة ولكنها لا تلغيها.
إن لبنان يعيش حالة اعتزاز وفخر بمجد المقاومة وصمود مجاهديها الأبطال… وهي حالة تعكس نفسها على دولته بمواقعها القيادية كافة، رئاسة وحكومة ومجلساً نيابياً وقادة سياسيين ومرجعيات روحية وهيئات حزبية واجتماعية إلخ..
وغير وارد أن يفرّط اللبنانيون، بعدما دفعوا ما دفعوه من دمائهم وحياة أطفالهم ومدنهم وقراهم ومصادر رزقهم نتيجة حرب التدمير الشامل التي تشنها إسرائيل تحت الإدارة الأميركية، بمجد صمودهم الأسطوري، وأن يرتضوا شروطاً لوقف النار لم يستطع عدوهم تحقيقها بالنار التي دمرت مرافقهم العامة وأحلام أطفالهم وحقهم بحياة تليق بهذا الشعب الذي بات الآن أكثر من أي يوم مضى موضع اعتزاز أمته العربية وكل الطامحين إلى الحرية والتقدم والديموقراطية الحقيقية بين شعوب العالم كافة.
إن لبنان جديداً حقاً يولد من قلب النار.
.. وهو قوي كفاية لرفض احتلال إرادته بالإرهاب، حتى لو اتخذ شكل المناورات السياسية والإغراءات المالية (؟!) بعدما عجز عدوه الإسرائيلي عن احتلال إرادته بقوة نيرانه الأميركية غير المحدودة.