رسالة مطولة، أو ربما عدة رسائل متنوعة، يتم ترويجها الآن عبر مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف، تم إعدادها بإتقان، تستهدف التشكيك في العقيدة فيما يتعلق بالقدس الشريف، التشكيك في العروبة فيما يتعلق بفلسطين، التشكيك في الهوية فيما يتعلق بكل دولة على حدة، تستهدف أيضاً خلق حالة من الانكسار واللامبالاة تجاه القضايا الإقليمية المطروحة الآن، وفي مقدمتها قضية القدس، تستهدف خلق مجتمع من المترهلين الذين لا تعنيهم مصائرهم، ولا مصائر أمتهم، ولا حتى مصائر ذرياتهم من بعدهم، هى باختصار رسائل الخنوع والخضوع والاستسلام.
هذه الرسائل تتحدث عن أن القدس قضية فلسطينية، ما شأننا نحن في مصر، تتحدث عن أن الفلسطينيين هم الذين ضيعوا القدس، عليهم إذن استردادها، تتحدث عن أننا حاربنا طويلاً من أجل القضية الفلسطينية، كفانا حروباً، تتحدث عن أن الفلسطينيين هم الذين يثيرون العنف والإرهاب في سيناء، أو أن الفلسطينيين باعوا قضيتهم، أو أن الفلسطينيين لا يريدون حل قضيتهم، أو أن العرب عموماً لا يستحقون الدفاع عنهم وعن قضاياهم، وهكذا جرعة كبيرة من الانهزامية والتبكيت الذي يثير الشفقة والغثيان في آن واحد.
قد تكون كتائب محلية، وقد تكون خارجية، وقد تكون، وقد تكون، إلا أنها في كل الأحوال تؤكد استمرار استهداف العقل المصري والعربي، حتى فيما يتعلق بمستقبله وأمنه القومي وهويته، لم يدرك أصحاب هذه الرسائل أن كل ذلك مردود عليه بشيء واحد فقط، وهو موقف المجتمع الدولى عموماً من هذه القضية، القضية الفلسطينية، أو قضية القدس، ذلك أننا شاهدنا في مجلس الأمن أخيراً، ونشاهد في الأمم المتحدة دائماً وأبداً، موقفاً موحداً عالمياً، باستثناء الولايات المتحدة، أحياناً تكون هناك مواقف من بعض الدول غير الإسلامية وغير العربية أقوى بكثير من مواقف الدول العربية والإسلامية، يكفي أن بوليفيا كانت الدولة الأولى في العالم التي أعلنت التقدم بطلب لعقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بالأزمة المثارة حالياً، ويكفي أن كل دول العالم بلا استثناء أعلنت رفضها للإجراء الذي اتخذه الرئيس الأمريكي.
القضية الفلسطينية إذن قضية حق، أو قضية عادلة، ليست قضية الفلسطينيين أبداً، كما أن قضية القدس قضية ضمير، أو قضية أخلاق، بقدر ما هى قضية إسلامية مسيحية، أما فيما يتعلق بمصر تحديداً، الأمر يختلف عن بقية دول العالم، بل عن بقية الدول العربية، من حيث العقيدة والضمير معاً، فلسطين والقدس بالنسبة لمصر قضية أمن قومي، وإلا لما كان الدور على احتلال سيناء ذات يوم، وجاهل من يعتقد أن سيناء لم تعد هدفاً إسرائيلياً، وجاهل من يعتقد أن إسرائيل بمنأى عن الإرهاب الحاصل هناك الآن، وجاهل من يتصور أن عقيدة من النيل إلى الفرات الإسرائيلية تم التغاضي عنها.
منذ حرب ١٩٤٨ حتى الآن ومصر تدافع عن أمنها القومي، تدافع عن ترابها، ثم عن استرداد أرضها فيما بعد، الأمن والتراب معاً تحت المقصلة الإسرائيلية ما دام استمر هذا الكيان النشاز في المنطقة، الفلسطينيون ليسوا في حاجة أبداً إلى متطوعين أو إلى جيوش عربية بقدر ما هم في حاجة إلى دعم، وبقدر ما هم في حاجة إلى مقاطعة إسرائيل والتضييق عليها، هم يستطيعون تحويل نهار إسرائيل إلى ليل حالك الظلام إذا وجدوا دعماً عربياً حقيقياً، الدليل على ذلك نموذج حزب الله في لبنان، الدليل على ذلك الانتفاضتان الفلسطينيتان الأولى والثانية، الدليل على ذلك انتفاضتهم الآن.
لا ينكر إلا جاحد أو منافق، ذلك الدم الفلسطيني الذي سال ويسيل على الأرض المقدسة هناك منذ نشأة الدولة المحتلة وحتى الآن، لا ينكر إلا جاحد أو منافق أنه لا يوجد بيت فلسطيني إلا وقدم مجموعة من الشهداء وليس شهيداً واحداً، لا ينكر إلا جاحد أو منافق أن الفلسطينيين على استعداد لتقديم المزيد من الشهداء إذا رفع العرب أيديهم عن القضية، ذلك أن العرب هم الذين اتهموا المقاومة الفلسطينية بالإرهاب واتخذوا مواقف رسمية في هذا الصدد، هم الذين وأدوا المقاومة من خلال مفاوضات مدريد التي مضى عليها ٢٧ عاماً، ثم اتفاقيات أوسلو فيما بعد، ثم سلطة فلسطينية لا حول لها ولا قوة، والآن نشهد مزيداً من التوسع في المستعمرات، والمزيد من مصادرة الأراضى، والمزيد من ممارسات القتل، في المقابل كانت علاقات عربية مع إسرائيل في العلن والسر.
لا يجب أن نغالط أنفسنا أكثر من ذلك، يجب أن نعترف بأن العرب هم سبب نكبة فلسطين وليس العكس، الخيانة كانت عربية على كل المستويات السياسية والعسكرية من أجل أصحاب العروش، الذين يدركون جيداً وما زالوا أن هناك خطوطاً حمراء لا يجب تجاوزها فيما يتعلق بإسرائيل لو أرادوا الاستمرار في مواقعهم، حتى لو كان ذلك على حساب مقدساتهم وعقائدهم.
فقط أدعو الأنظمة العربية، كما الشعوب، إلى الوقوف بإمعان أمام استقالة الأمريكية «مصرية الأصل» المسيحية الرائعة، دينا باول، نائبة مستشار الأمن القومي الأمريكي، وهى أيضاً مستشارة الرئيس الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، التي تقدمت باستقالتها من هذه الوظيفة المرموقة في البيت الأبيض، اعتراضاً على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لنتوقف لحظة أمام ما فعلته دينا باول لنتأكد كم أننا أمام قضية عادلة من كل الوجوه، الموقف المصري فيها لا يجب أن ينطلق أبداً من حسابات شخصية دنيئة أو انهزامية عميلة كما تحاول الكتائب الإلكترونية ترويجه.. فلا نامت أعين الجبناء والمرتزقة في آن واحد.
نشرت في المصري اليوم في 10 كانون الأول 2017