سيكون المشهد، غداً، الخميس، في البيت الأبيض بواشنطن، أقرب الى الكوميديا السوداء منه الى المهرجان السياسي:
سيتولى الرئيس الأميركي الأسمر ذو الجذور الإسلامية الخفيفة باراك أوباما رعاية تسوية مؤقتة، وبالإكراه، بين رئيس حكومة إسرائيل ـ دولة يهود العالم بنيامين نتنياهو وبين رئيس مطعون في شرعيته لسلطة حكم محلي في بعض فلسطين.
الشاهدان العربيان الساميان لهما شرف الأسبقية في عقد اتفاقات سلام لم تنتج سلاماً مع إسرائيل» اولهما رئيس جمهورية مصر العربية الذي كان سلفه قد حاز شرف السبق في زيارة إسرائيل ـ التي كانت «العدو» بعد ـ ثم عقد معها الاتفاق الأول للسلام، وتحت الرعاية الأميركية في كمب ديفيد 1978، والثاني في وادي عربه سنة 1994 لكي يترك لياسر عرفات ان يسبقه بتوقيع اتفاق اوسلو 1993، فلا يتهم الملك حسين بأنه «المفرط»، بل هو ترك لصاحب القضية ان يدخل قبله ولم يملك بعد ذلك إلا أن يلحقه!
فأما صاحب التوقيع الأول، السادات، فقد كان عذره أن العرب قد تخلوا عنه فعز عليه الانتصار على عدوه فذهب اليه مصالحاً بشروط لم يكن ليقبلها لو أن العرب صالحوا معه!
وهكذا فهو قد اضطر لان يترك سيناء مفتوحة، تحت رقابة قوات دولية رمزية تم اختيارها بموافقة الإسرائيلي وخارج الأمم المتحدة، وكذلك كان عليه ـ وقد أنهى حالة الحرب ـ ان ينهي الحصار من حول إسرائيل كلياَ: لا جيشه يدخل سيناء، وليس له حق التحكم بحــق مرور سفنها ـ مدنية وحربية ـ في قناة السويس، كما في مضائق تيران… بل وقد انتهى احتمال الادعاء بأن البحر الأحمر «بحيرة عربية»! ومن قبيل تنشيط الذاكرة تمكن الإشارة الى ان إسرائيل هي التي تهدد الآن بإقفال هذا البحر من خلال السيطرة على بعض الجزر بين باب المندب وبحر العرب.
فأما الشاهد الثاني فقد ترك للجــيش الإسرائيلي ان يضبط الحدود مع الأردن، بعد اتفـاق وادي عــربه، اذ رفع مــسؤوليته القــانونية عن الضفة الغربية التي حولت إمارة جده الأمير عبد الله الى مملكة، عشية التحـضير لإقامة دولـة إسرائيـل وقـبل ربع قرن من «وجودها»… وها إن «العدو السابق» قد تمدد بإقامة المستوطنات في غور الأردن بحيث بات يمنع التواصل بين فلســطينيي «الداخل»، وأساسا أهل الضفة وأشقائهم الذين صيروا ذات يوم «أردنيين» والذين يعاد النظر في هوياتهم الآن، حتى لا تحرج المملكة في علاقتها مع إسرائيل.
صار للجيش الإسرائيلي وحده حق التعامل مع الفلسطينيين بامتداد حدود «فلسطين التاريخية»… براً وبحراً وجواً!
للتذكير فقط، نشــير الى أن اتفاق اوســلو قد تم عقــده ـ رسميا ـ في احتفال فخــم، أيضا، في حديقة الــورود في البيت الأبيض، وبرعاية الرئيس الاميركي الأسبق بيل كلينتون.. وقد اعتبره الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بداية رحلة العودة، في حين اعتبره الإسرائيليون نقطة النهاية في مسيرة القضية، ثم عاقبوا رئيس حكومتهم الذي وقعه اسحق رابين باغتياله المدوي بعد أقل من سنتين على الاحتفال المهيب بإنجاز المصالحة التاريخية بين «العرب» و«اليهود».
ما علينا… دخل الثوار المتقاعدون والمتعبون بل المنهكون بالتشرد في ارض العرب الواسعة، الى أرضهم التي لم تعد أرضهم.. لم يكن دخول الفاتحين المحررين، بل كان أقرب الى دفعهم دفعاً الى قفص الاحتلال، مع التخلي عن القضية وأهداف التحرير.
وهكذا صــاروا شرطة محلية ملزمة بحــماية الاحــتلال: لــقد دخلوا بشروطه، ثم ان من وقّع معهم (رابين) قد لقي عقابه، بل وتعاقب بعد على رئاسة الحكومة ـ حتى اليوم ـ ستة من «خصومه» و«معارضيه»: شيمون بيريز لأشهر معدودة، ثم «الصقر» نتنياهو، فالمقاتل باراك، الذي حاول إكمال المسيرة مع عرفات في كمب ديفيد، وبرعاية كلينتون ذاته، لكن الرئيس الفلسـطيني رفض دخول الكمين، في آخر لحظة، فعوقب بالحصار حتى الموت اغتيالاً في محبسه في رام الله.
بعد ذلك تولى «المتوحش» ارييل شارون تحطيم ما تبقى من اتفاق اوسلو، فاقتحم المسجد الأقصى لتنفجر الانتفاضة الثانية التي لم تجد قيادة مؤهلة ولا حاضنة عربية قادرة ولا رعاية دولية تمكنها من الإنجاز.
بعد غياب شارون عن الوعي والدور جاء أولمرت فكانت حربه على لبنان (تموز ـ يوليو ـ آب ـ اعسطس2006) التي كشفت حجم الانشقاق العربي، وخصوصاً ان معظم أهل النظام العربي كانوا يتمنون، بل يبعثون بالرسائل المشجعة الى القيادة الإسرائيلية ـ مباشرة ـ او عبر واشنطن ـ داعين الى المضي في الحرب حتى القضاء على ظاهرة المقاومة في لبنان التي صمدت للحرب الإسرائيلية، لكي لا تصير نموذجاً يقتدى فيطير.. السلام!
أما على المستوى الفلسطيني فقد قفز محمود عباس الى السلطة في ظل شرخ اخذ يتسع مهدداً آخر مؤسسات الثورة والشرعية حتى جاءت الانتخابات التشريعية فكرسته في ظل انشقاق مدمر انتهى بانفصال غزة تحت لواء «حماس»، بينما أعيد تثبيت عباس في رام الله.. في انتظار انتخابات لا مجال لها في المدى المنظور!
بعد هذه الوقفة أمام شرعية الرئيس الفلسطيني الذي يؤخذ الى واشنطن بالسلاسل (بغض النظر عن رغبته)، في مواجهة الأشد تطرفاً والأشرس من بين القيادات الإسرائيلية نتنيـاهو، يمكن التوقف قليلاً أمام الشاهدين العربيين: إن الرئيس المصري كما الملك الأردني بحاجة ماسة الى المساعدة الاميركية، وعلى مختلف المستويات، سياسياً واقتصاديا وعسكريا وأمنياً، ثم إنهما محكومان بمنطوق الاتفاقات المعقودة مع العدو السابق، إسرائيل. وهما يذهبان الى واشنطن بالأمر وليس بالرغبة، فهي من فرضت هذا اللقاء وعيــنت حـضوره من دون أي تعهد بأن تتجاوز نتائجه الصورة التذكارية للإذلال الإسرائيلي الجديد «للعرب» عبر إلزامهم بالموافقة على اتفاق إذعان جديد يفرض على الطرف الفلسطيني العاجز، يأخذ منه ما تبقى من شرعيته ولا يعطيه بالمقابل أي شبر من أرضه… بل ان نتنياهو يعلن جهاراً ان اللقاء سيحرر قراره ببناء المزيد من المستوطنات عبر اتفاق تحت رعاية الإدارة الاميركية التي اجبرها على سحب تعهدها اللفظي بدولة فلسطينية.
ما بين 1993 و 2010 وقع من التراجعات السياسية، عربياً بالأساس، ومن ثم فلسطينياً، ما يسمح بل ويفرض اتفاق إذعان جديد، لا تستطيع ان ترفضه هذه السلطة الهزيلة والمطعون بشرعيتها والتي تعيش على الصدقات والإعانات الأجنبية: مخابراتها في اليد الاميركية وقرارها في اليد الإسرائيلية وشرطتها حارس حدود إضافي للأمن الداخلي الإسرائيلي يطارد نوايا او أقوال من يفكر بالمقاومة والتحرير.
ولن يضفي وجود الحاكمين العربيين ورعاية الرئيس الاميركي أي قدر من الشرعية على هذه السلطة، وبالتالي على اتفاق الإذعان الجديد، اللهم إلا إذا اعتبرنا الاعتذار بالعجز مصدراً للشرعية.
والخلاصة: قد يكون في هذا اللقاء بالإكراه، فلسطينياً، وبالإحراج، مصرياً وأردنيا، وبالمصلحة المؤكدة إسرائيليا، ما قد يفيد الرئيس الاميركي الأسمر في الانتخابات النصفية… لكن شعب فلسطين (ومعه الأمة جميعاً) سيدفع ـ مرة أخرى ـ من أرضه ومن حقه في ان تكون له فيها دولة قابلة للحياة، ثمن هذا التهافت الجديد على التنازل المجاني عن حق تاريخي مؤكد بالدم.
رحم الله الشهداء.. ولنقرأ جيداً تظاهرة واشنطن العنصرية يوم السبت الماضي لنتأكد من مدى قوة «اوباما» على الحكم ثم على فرض رأيه على إسرائيل نتنياهو.
ينشر بالتزامن في جريدة «الشروق» المصرية